فقه اللغة

يعرض هذا المقال موجزا لكتاب “فقه اللغة” للدكتور علي عبد الواحد وافي، نهضة مصر للطباعة و النشر و التوزيع، الطبعة الثانية، 2000م، 248 صفحة. حيث بدأ الكتابُ بأطراءِ مجمع اللغة العربية على كتابي د. علي وافي، و هما: كتاب “علم اللغة” و كتاب “فقه اللغة”، ثم تسلسل على النحو الآتي:

مقدمة الطبعة الأولى

بيّن المؤلف أنّه عرض في كتابه ‘علم اللغة’ دراسة النواميس العامة التي تسير عليه اللغات الإنسانيّة في نشأتها وانتقالها و انشعابها وصراعاتها مع بعضها وتطوّرها. وأوضح أنّه يخُصّص هذا الكتاب لدراسة فصيلة خاصّة من اللغات الأنسانية وهي “اللغات الساميّة”. فهذا الكتاب بمثابةِ جزءٍ ثانٍ لكتاب ‘علم اللغة’.

تمهيدٌ

1) في الشّعوبِ السامية ولغاتِها:

يطلق الآن لقب “الساميين” على الشعوب الآرامية والفينيقية والعبرية والعربية واليمنية والبابلية- الأشورية وما انحدر من هذه الشعوب”(6). “و أول من استخدم هذا الوصف في اطلاقه على الشعوب السابقة العالم الألماني شلوتزر في أواخر القرن الثامن عشر، وقد اقتبسه مما ورد في سفر التكوين بصدد أولاد نوح الثلاثة ‘سام و حام و يافث’ و الشعوب التي انحدرت من كل ولد منهم، فقد ذكر هذا السفر أن أولاد سام هم عيلام وآشور وأرفكشاد و لود و آرام، و أنه قد ولد لأرفكشاد شيلاش ولشيلاش عابر أبو العبريين…الخ”(6). “غير أنه يلاحظ أن سفر التكوين قد اعتمد في تقسيمه هذا على الروابط السياسية و الثقافية و الجغرافية أكثر من اعتماده على صلات القرابة و الروابط الشعبية”(6). و أعطى المؤلف دليلين لذلك: [أ] عدّ سفر التكوين الليديين و العيلاميين من الساميين لشدة امتزاجهم بالأشوريين و خضوعهم لسلطانهم السياسي مع أنهما من الناحية الشعبية أجنبيان عن الشعوب السامية و أجنبيان عن بعضهما، فالعيلاميون يغلب على الظن أنهم عن جنس ايراني، و الليديون غير معروفي الأصل، و لكن من المقطوع به أنهم غير ساميين و لا يجمعهم بالعيلاميين أصل قريب. [ب] اعتبر السّفرُ الفينيقيين من الشعوب الحامية لتعدُّد صلاتهم السياسية و الثقافية بالشعوب الحامية المصرية و البربرية و بسبب العداء و الحروب بينهم و بين العبريين و اختلافهم عنهم في النظم الاجتماعية و شئون السياسة و الدين، مع أنهم من أخلص الساميين نسباً و أقربهم رحماً الى العبريين أنفسهم. فكان الأجراء أنْ اقتبس العلماء كلمة الساميين من سفر التكوين و لكنّهم أخرجوا الشعوب التي ظهر لهم أنها أجنبية عن الساميين و أضافوا اليها الشعوب السامية التي سكت عنها السفر أو عدها من فصائل أخرى. فاستقر مدلول الساميين على الشعوب التي ذُكرت سابقاً.(صفحة 6).

2) اللغات الساميّة

“فمدلولها -اللغات الساميّة- يشمل اللغات الأكادية ‘الآشورية – البابلية’ و الآرامية و الكنعانية ‘الفينيقية و العبرية’ و العربية و اليمنية و الحبشية”(7). “و أول من استخدم هذا الوصف في اطلاقه على هذه اللغات العالمان الألمانيان شلوتزر و ايكهورن في أواخر القرن الثامن عشر”(7).”.. يمكن القول انه لم ينتصف القرن السابع عشر حتى تكونت لدى المستشرقين فكرة واضحة عن صلات القرابة بين معظم أفراد الفصيلة السامية… و قد كملت هذه الفكرة و ازدادت وضوحاً في القرن التاسع عشر”(7).

3) دراسة اللغات السامية

“و قد انقسمت دراسة اللغات السامية الى وجهتين: احداهما دراسة عامة في تاريخ هذه اللغات و نشأتها و حياتها و تطورها.. و ما الى ذلك، و ثانيتهما دراسة خاصة في أصواتها و قواعدها و مفرداتها.. و موازنتها من هذه النواحي بعضها ببعض”(8). مِن أشهر مَنْ كتب في الوجهة الأولى هو الفرنسي رينان و الألماني نولدكه. و مِنْ أشهر من كتب في الوجهة الثانية هو زيميرن و الأستاذة ريت. و مِن أشهر مَنْ كتب في الوجهتين معاً هو الألماني بروكلمان. (أنظر صفحة 8).

4) انحدار الأمم الناطقة باللغات السامية من أصلٍ واحدٍ

“هذا، و ان رجوع هذه اللغات جميعها الى فصيلة واحدة ليحمل على الظن أن الأمم الناطقة بها ترجع كذلك الى أصل واحد، و أنها قبل تفرقها كانت تؤلف وحدة شعبية، و لكن يحول دون قبول هذا الفرض أن اللغة لا تنتقل من السلف الى الخلف فحسب، بل تنتقل أحيانا الى شعب أجنبي عن شعبها اذا اشتبكت في صراع مع لغته و كتب لها النصر… فمن المحتمل اذن أن يكون أحد هذه الشعوب أو بعضها غير سامي الأصل، و انتقل اليه اللسان السامي عن هذا الطريق…” (8). “فمن المقطوع به الآن أن معظم الجماعات الحبشية الناطقة بلهجات سامية منحدرة من أصول غير سامية، و أن اللسان السامي قد انتقل اليها مع مَنْ نزح الى بلادها من الساميين على أثر صراع انتصر فيه هذا اللسان على لغاتها القديمة” (9).”و من المرجح أن كثيراً ممن كانوا يتكلمون الأكادية و العبرية و الآرامية منحدرون كذلك من أصول غير سامية…” (9).

5) الموطن الأول للشعب السامي

“و لكن مما لا شك فيه أن الأمم السامية الأصلية التي انتشرت في هذه المناطق و نشرت بها لغتها، كان لها في الأصل موطن واحد” (9). يرجع أهم الأراء حول موطن الأول للشعب السامي الى ما يلي: ١- بلاد الحبشة نزحوا منها الى القسم الجنوبي ببلاد العرب عن طريق باب المندب، و انتشروا من هذا القسم ابى انحاء الجزيرة العربية. ٢- شمال أفريقية، و منه نزحوا الى آسيا عن طريق برزخ السويس. ٣- بلاد أرمينية بالقرب من حدود مردستان. “و هذه الآراء الثلاثة هي أضعف ما قيل بهذا الصدد، اذ لم يكد أحد من أصحابها يقدم بين يدى مذهبه دليلاً يعتدُ به” (9).   ٤- جنوب العراق، يستدل عليه الأستاذ جويدى ببعض كلمات مشتركة في جميع اللغات السامية تتعلق بالعمران و الحيوان و النبات. و هذا ما تذهب اليه التوراة حيث أقدم ناحية عمرها أولاد نوح هي أرض بابل. ٥- بلاد كنعان، و يستدل على ذلك بأن الساميين كانوا منتشرين في البلاد السورية القديمة في أزمنة سحيقة في القدم و لم تعرف مدينتهم في هذه البلاد نشأتها و لا تعرف قبلها مدينة أخرى. بينما سكن بلاد العراق التي يراها البعض المهد الأول للساميين الشعب السومري، كانت له فيها مدينة زاهرة قبل مدينتهم. ٦-  القسم الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية (بلاد الحجاز و نجد و اليمن و ما الى ذلك). “و قد مال الى هذا الرأي عدد كبير من قدانى المستشرقين و محدثيهم، و على رأسهم العلامتان رينان الفرنسي و بروكلمان الألماني، و هذا هو أصح الآراء و أقواها سنداً و أكثرها اتفاقاً مع آثار هذه الأمم و حقائق التاريخ” (10). (انظر الى هذه الآراء الستة صفحة 10). يرجع الأخذ بالرأي السادس أدلة كثيرة: اتّجهت دوماً الهجرة في هذه البلاد في العصور السابقة للتاريخ و في العصور التاريخية من القسم الجنوبي الغربي ‘بلاد نجد و الحجاز و اليمن و ما اليها’ الى الشمال و الشرق ‘سوريا و العراق و ما اليها’. “فمن هذا القسم نزح الساميون الى جنوب العراق و غزوا بلاد السومريين و غلبوهم و أنشئوا بهذه المنطقة دولة عظيمة و مدينة زاهرة ‘دولة بابل’.” (10). يُظن أنها في القرن 36 ق.م. “و من هذا القسم كذلك نزح الساميون الى الشمال، فتكونت من سلالاتهم الشعوب التي عرفت باسم الكنعانية”(10). يُظن أنها في القرن 26 ق.م.” و يظهر أنه تخلف منهم شمال الحجاز تلك القبائل التي عرفت عند العرب باسم قبائل ثمود، و التي تركت في هذه المنطقة نقوشاً كان لها شأن كبير في الوقوف على ناحية من تاريخ اللغات السامية عامة و اللغة العربية على وجه الخصوص”(10). “و من هذا القسم كذلك حدثت هجرة ثانية الى العراق كان من آثارها أن قبض الساميون على زمام الحكم في معظم بلاد العراق و أسسوا بها الدولة الكلدانية الخامسة التي كان من ملوكها حمورابي” (10). يُظن أنها في القرن 16 ق.م. “و من هذا القسم كذلك نزح بعض القبائل الاسماعيليين ‘نسل اسماعيل عليه السلام و كان موطنهم الأصلي بلاد الحجاز’  الى الشمال” (10). يُظن أنها في القرن 6 ق.م. “و من هذا القسم كذلك نزح في أوائل التاريخ الميلادي بعض القبائل المعدية ‘التي كان موطنها الحجاز’ الى الشام، و بعض القبائل القحطانية ‘التي كان موطنها اليمن’ الى الحجاز و الشام و الشرق، فنزلت منها خزاعة بمكة، و الأوس و الخزرج بيثرب، و غسان بالشام، و لخم بالعراق” (11). “فاذا أضيف الى ما تقدم أن معظم الباحثين يقررون أن أول هجرة سامية الى الحبشة كانت من بلاد اليمن، تبين رجحان الرأي الذي نحن بصدده و هو أن المهد الأول لجميع الشعوب السامية كان القسم الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية ‘بلاد نجد و الحجاز و اليمن و ما اليها’.” (11). و يؤيد هذا الرأي ما ذهب اليه الأمير كيتاني دوتيانو ان هذا القسم كان كثيف السكان، خصب الأرض، موفور الخيرات، تخترقه ثلاثة أنهر كبيرة على الأقل، فقد خصوبته و جفت أنهاره فنزح معظم سكانه الى جهات أخرى. (انظر، 11). “و يزيد هذا الرأي تأييداً أن العقلية السامية القديمة عقلية أساسها المحس المشاهد لا المعنوي المتخيل، فهي ضحلة التخيل، قليلة العمق في المعقولات المحضة، لا تكاد تلمس ما وراء الطبيعة الا برفق و سذاجة و في نطاق محدود، و لا أدل على ذلك من أن معظم الكلمات السامية الدالة على الحقائق الكلية و الأمور المعنوية و الظواهر النفسية ترجع أصولها الى أمور مادية تتصل بعالم الحس، فجميع الكلمات و الجمل التي يعبر بها في العبرية عن الغضب مثلاً تدل في الأصل على أمور حسية… و من الواضح أن عقلية هذا شأنها لا تنشأ الا في مواطن صحراوية قليلة المظاهر الطبيعية، غير متنوعة الأجواء، لأن المناطق المتنوعة الأجواء الغنية بمظاهر الطبيعة، تنمي قوة الخيال و تؤدي ابى تنوع التفكير، ففي هذا دليل على أن الجماعة السامية الأولى التي ورثت هذه الأمم عقليتها و خيالها و لغتها قد نشأت في الأصل في مناطق صحراوية، و تيرية المناخ، فقيرة في مظاهر الطبيعة، و هذه الأوصاف متوافرة في الحجاز و نجد و ما اليهما” (10-11). أتلمس تناقضاً بين أخر دليلين على موطن الساميين الأول. فقد اعتبر رأي الأمير كيتاني بخصوبة القسم الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة و انهاره الثلاثة و وفرة خيراته دليلاً على وجد الساميين فيه، ثم عدّ عقلية الساميين حسيّة مادية بسبب موطنهم الصحراوي قليل التنوع الطبيعي مطلق الخيال و الذي يتطابق مع الحجاز و نجد و ما اليهما. فكيف نوفّق بين الدليلين! و كيف نعدّ عقلية الساميين فقيرة الخيال و التنوّع و قد بنى مدناً و أنظمةً و أسسوا علوماً و فنوناً باهرةً؟

6) أقدم لغة ساميّة

اختلف العلماء في الموطن الأول للأمم السامية واختلفوا أيضاً في لغتهم الأول أياك كانوا مجتمعين في موطنٍ واحدٍ. “فكان أحبار اليهود في العصور القديمة يعتقدون أن العبرية هي أقدم لغة انسانية…” (12). “و ذهب بعضهم الى أن الأشورية البابلية هي أقدم اللغات السامية، و لم يقدم أصحاب هذه النظرية دليلاً يعتدُ به… (12).”و ذهبت طائفة من المحدثين، و على رأسهم العلامة أولسهوزن Olshausen ‘في مقدمة كتابة عن العبرية’ الى أن اللغة العربية هي أقرب اللغات السامية الى اللغة السامية الأولى”(12). تقوم جميع هذه الآراء على أساس فاسد لأن جميع اللغات السامية حينما وصلت للعلماء كانت قد ابتعدت عن النقطة الأولى التي ابتدأ منها تطورها، فمن الخطأ اذن النظر الى واحدة منها على أنها أول لغة تكلم بها الشعب السامي، اذ لا تحتفظ اللغات بوحدتها بل تنشعب الى لهجات و لغات. فلا يُعقل أن الشعب السامي الأول ظل مختفظاً بوحدته الاجتماعية أو ظل حبيساً في منطقة واحدة أمداً طويلاً(انظر13). “و لذلك يمكن القطع بأنه لم توجد أبداً أو لم تكد توجد لغة سامية واحدة، بل وجد من مبدأ النشأة عدد كبير من اللغات السامية”(13). لجأ بعضُ العلماء الى بحث الأمور المشتركة بين اللغات السامية في المفردات و القواعد، و اتخذوا منها صورة للغة السامية الأولى بحيث تعتبر اللغة السامية التي تقترب من هذه الصورة هي الأقدم نشأةً و أقرب للسامية الأم (13). “و هذا المذهب لا يقل فساداً عن المذاهب السابقة، لأن هذه الأمور المشتركة لا تمثل أكثر من وجوه الشبه بين اللغات السامية في أقدم حالة أتيح للعلماء معرفتها، و قد تقدم أن هذه اللغات قد اجتازت مراحل كثيرة في التطور قبل أن تصل الى هذه الحالة، فبعدت بذلك كل لغة عن الأصل القديم، فهذه الأمور المشتركة لا تمثل اذن تمثيلاً صادقاً أقدم لسان تكلم به الساميون”(13).”غير أنه من المسلم به لدى معظم المحدثين من علماء الاستشراق أن اللغة العربية قد احتفظت بكثير من الأصول السامية القديمة في مفرداتها و قواعدها، و أنه لا تكاد تعدلها في ذلك أية لغة سامية أخرى، و يرجع السبب في هذا الى نشأتها في أقدم موطن للساميين، و بقائها في نقطة مستقلة منعزلة، فقلت بذلك فرص احتكاكها باللغات الأخرى، و لم تذلل لها سبل كثيرة للبعد عن أصلها القديم” (13). و ذهب الشيخ محمد أحمد مظهر الى أن اللغة العربية هي أم اللغات الانسانية جميعاً (هامش،ص 13). يتناقض المؤلف في أخر رأيين: ينكر أن تكون الأمور المشتركة بين اللغات السامية هي صورة أقرب للغة السامية الأم، و لكنه يقرّ مع العلماء باحتفاظ العربية لكثير من الأصول السامية، فكيف عرف العلماء هذه الأصول؟ أليس المشترك اللغوي بين اللغات خاصةً أنها ان تباعدت عن أصلها و انشعب الى لهجات دليلاً على أنه من اللغة الأقدم نشأةً؟

7) خصائص اللغات السامية وصفاتها المشتركة

1- يتألف الأصل السامي في الغالب من ثلاثة أصوات ساكنة ‘غير لينة’ مختلفة ‘ق ت ل، ض و ب، ر ج ع.. الخ’ غير أن لكل وجه من هذه الوجوه شواذ كثيرة” (14). [أ] بعض الأصول السامية يتألف من صوتين فقط مثل بعض الحروف ‘عن، قد، بل..’ و الضمائر ‘هو، هم..’ و أسماء الشرط و الموصول و الأشارة ‘من، ذا..’ و بعض أسماء الذوات ‘يد، دم..’ و أفعال لا يبقى منها الا حرفان في معظم وجوه تصرفها ‘قلت، نلت، عمت، رمت'(14). [ب] و بعض الأصول السامية يتألف من صوتين ساكنين و صوت لين أو نصف لين ‘قال، وعد..’ (15). [ج] و بعضها يتألف من صوتين ساكنين مضعف ثانيهما ‘تم، رد..’ (15). “أما الكلمات التي تبدو رباعية الأصول في العربية و العبرية فهي متفرعة في الحقيقة عن أصول ثلاثية ‘دحرج مثلا متفرعة عن درج أو عن دحر الدل على الدفع و الابعاد’ على الرغم من أن علماء الصرف يعتبرون جميع أصواتها أصلية” (15). “و أطول الكلمات لا توجد مستقلة في اللغات السامية، فالأصل الدال على معنى القتل في اللغة العربية مثلاً و هو قْ تْ لْ لا يوجد مستقلاً في هذه اللغة، بل لا يمكن النطق به” (15). “و الأصوات التي يتألف منها أصل ما توجد مرتبة، حسب ترتيبها في الأصل، في جميع الكلمات المشتملة على معناه العام، فالأصول الثلاثة قْ تْ لْ التي يتألف منها الأصل الدال على معنى القتل، توجد مرتبة بالشكل السابق في جميع الكلمات المشتملة على هذا المعنى: قتل، قاتل، قتال، قتيل.. الخ” (15). “و اشتمال الكلمة على أصوات أصلٍ ما لا يدلُ على أكثر من تضمنها للمعنى العام لهذا الأصل”(15). و ما عدا المعنى العام للأصل مثل نوع الكلمة’اسم، فعل..’ و زمنها و وظيفتها في الجملة، تدلُّ عليه في اللغات السامية أصواتُ المد الطويلة كألف و ياء وواو.. الخ’ أو القصيرة كالفتحة و الكسره و الضمة (15). و قد تسبِقُ أصواتٌ جديدةٌ أصواتَ الأصلِ الثلاثة أو تتخلّلها أو تلحقها للدلالة على معانٍ خاصة في الكلمة (16). 2- “لا تكاد توجد في اللغات السامية كلمات تشتمل على أكثر من أصل واحد…” (16). 3- للأصوات الساكنة في اللغات السامية أهمية تزيد كثيراً على أهمية أصوات اللين، و يبدو هذا في ثلاثة وجوه: في الدلالة، و النطق، و الرسم” (16). [أ] “فالمعنى الأساسي للكلمة…يشارُ اليه غالباً بالأصوات الساكنة، أما الأصوات اللينة فلا تعدو وطيفتها في الغالب تحديد هذا المعنى العام و توجيهه وجهات خاصة…” (16). [ب] “و الأصوات الساكنة تنال أكبر قسط من عناية المتكلم، و هي لذلك أوضح في الجرس من الأصوات اللينة، و أظهر منها في السمع” (16). [ج] “…فأهم ما يعني الرسم السامي باظهاره هو الأصوات الساكنة، أما الأصوات الليمة فيغفل بعضها اغفالاً تاماً و يشير الى بعضها بالشكل، و يرسم بعضها رسماً مضطرباً غير دقيق، و هذا في الرسم الحديث، أما الأشكال القديمة للرسم السامي فكانت تغفل جميع أصوات اللين”(16). 4- ليس للفعل في معظم اللغات السامية الا زمنان: فعل انتهى زمنه ‘ماض’، و فعل لم ينته زمنه ‘مضارع للحال أو الاستقبال و أمر’.” (17). يُستثنى من ذلك اللغات الاكادية فان للفعل فيها ثلاثة أزمنة (هامش 17). 5- “يحدث في الغالب تأنيث الأسم و الصفة في اللغات السامية و الحامية باضافة تاء الى المذكر” (17). 6- “تتشابه اللغات السامية كذلك في كثير من المفردات، و خاصة المفردات الدالة على أعضاء الجسم، و الضمائر، و صلة القرابة، و العدد، و بعض الأفعال، و مرافق الحياة الشائعة في الأمم السامية” (17).

8) وجوه الخلاف بين اللغات السامية

“فمن وجوه الاختلاف في القواعد أداة التعريف، فهي في العربية ‘ال’ في أول الكلمة، و في العربية و بعض اللهجات العربية البائدة حرف (ه) في أول الكلمة، و كانت في السبئية حرف نون في آخر الكلمة، و في السريانية حرف (آ) في نهاية الكلمة. أما الآشورية-البابلية و الحبشية فلا أداة للتعريف فيهما مطلقاً” (17). “و من ذلك أيضاً علامة الجمع: فهي في العبرية حرفا ‘يم’ للمذكر و الواو و التاء للمؤنث؛ و في الآرامية حرفا ‘ين’؛ في حين أنه في العربية يستخدم للدلالة على جمع المذمر الواو و النون في الرفع و الياء و النون في النصب و الجر في آخر الكلمة و للدلالة على جمع المؤنث الألف و التاء في آخر الكلمة، و للدلالة عليهما معاً صيغ جمع التكسير” (17). “و من وجوه الاختلاف في الأصوات أن الأصوات العربية: ذ غ ظ ض لا وجود لها في العبرية، و الصوتين ‘ب’ p و ‘ف’ v لا وجود لهما في العربية، و لا وجود للعين و القاف و السين في البابلية، و أغلب ما يأتي في العبرية بالسين يأتي في العربية و الحبشية بالشين و العكس بالعكس”(17).”أما الاختلاف في المفردات فيبدو حتى في بعض الأسماء التي كانت مدلولاتها شائعة عند جميع الشعوب السامية ‘صبى، شيخ، جبل، خيمة..” (18).

9) صلة اللغات السامية باللغات الحامية

“تنتظم اللغات الحامية في ثلاث طوائف: اللغات المصرية ‘المصرية القديمة و القبطية’، و اللغات البربرية ‘اللغات القديمة لسكان شمالي أفريقيا: برقة و طرابلس و تونس و الجزائر و المغرب و الصحراء و الجزر المتاخمة لها’؛ و اللغات الكوشية ‘لغات السكان الأصليين للقسم الشرقي من أفريقيا المحصورين بين درجة العرض الرابعة جنوب خط الأستواء و حدود مصر…” (18). “و لا يوجد بين هذه الطوائف الثلاث من وجوه الشبه أكثر مما يوجد بين كل طائفة منها و مجموعة اللغات السامية، فاعتبارها مجموعة متميزة هو مجرد اصطلاح لا يتفق في شيء مع حقائق الأمور” (18). تتلخص أهم وجوه الشبه بينها و بين اللغات السامية بما يلي:

1- تشبه اللغة المصرية القديمة اللغات السامية في الضمائر و أسماء العدد و كثير من أسماء الذوات خاصة الأسماء المؤلفة من صوتين و في كثير من قواعد الصرف و التنظيم ‘و من ذلك تأنيث الاسم و الصفة بالتاء، و تكوين المضارع بوضع الضمير في أول الفعل’، و تشترك معها في أهمية الأصوات الساكنة على اصوات اللين في دلالة مفرداتها و نطقها (18). “و لذلك ذهب كثير من العلماء الى اعتبار اللغة المصرية القديمة و اللغات السامية مجموعتين من فصيلة واحدة. و ذهب بعضهم الى أبعد من ذلك فاعتبر المصرية القديمة لغة سامية…”(18). ٢- ظهر للباحثين وجوه شبه كثيرة بين اللغات السامية من جهة و كل من مجموعتي اللغات البربرية و الكوشية من جهة أخرى، خاصة في النواحي المتعلقة بالصرف و الاشتقاق. و لكن وجوه شبههما باللغات السامية أقل كثيراً من وجوه الشبه بين اللغات السامية و المصرية القديمة، و قد اختلف العلماء في تعليل ذلك: رأى بعضهم اللغات السامية و المصرية و البربرية و الكوشية هي أربع مجموعات لفصيلة واحدة، غير أن انفصال البربرية و الكوشية عن السامية قد حدث قبل انفصال المصرية عن السامية بزمن طويل. و يذهب بعضهم الى أن الكوشية و البربرية لا تربطهما صلة قرابة بالسامية و أن اتفاق هذه اللغات في بعض المفردات و القواعد يرجع الى تأثرها بعضها ببعض و اقتباس بعضها من بعض. يرى بروكلمان أنه لا يمكن القطع بقرابة أو عدم قرابة بين السامية من جهة و الكوشية و البربرية من جهة أخرى، و ذلك لأن اللغتين الأخيرتين لم تصلا الينا الا في أشكالهما الحديثة المستخدمة الآن بين بعض العشائر في المغرب و السودان و الحبشة و الصومال. (انظر، 19). “و خلاصة ذلك أنه يغلب على الظن قرابة اللغة المصرية من اللغات السامية، أما صلة الكوشية و البربرية احداهما بالأهرى و صلة كل منهما بالمصرية و باللغات السامية، فلا يمكن الآن القطع في هذا كله برأي” (19).

الباب الأول: اللغات الأكادية أو البابلية – الأشوريّة

1) نشأتها وانتشارها

هاجر الساميون الى العراق منذ القرن 36 ق.م حيث اتجهت هجرتهم شطر القسم الجنوبي من بلاد العراق. سكنَ هذه المنطقة قبل هجرة الساميون اليها الشعب السومري، و هو شعبٌ غير سامي و لا آري. تغلّب المهاجرون الساميون على السومريين و أخضعوهم لسلطانهم، و أقاموا دولةً ساميّةً في القسم الأعلى ‘الشمالي’ من المنطقة، حيث بلاد ‘أكاد’ حسب السومريين، أو أقليم ‘كلده’ حسب تسمية الساميون. ثم انتقلت دولتهم الى القسم الأدنى ‘الجنوبي’ التي يسمّيها السومريون بمنطقة سومر، ثم عادت ثانيةً الى القسم ‘الشمالي’ حيث ‘بابيلونيا’ التي صارت عاصمة الدولة الساميّة.(انظر، 22). “و لأهمية مدينة بابيلونيا نسب اليها هولاء الساميون، فاشتهروا باسم البابليين، و نسبت اليها دولتهم فاشتهرت باسم دولة بابل”(22). حصلت هجرات ساميّة أخرى الى القسم الشمالي من بلاد العراق في القرن 25 ق.م، خضعَ سكانها غير الساميين لسلطانهم، و أقاموا على أنقاض دولتهم دولةً ساميّةً، قاعدتها مدينة آشور، استبدلوا بها فيما بعد مدينة نينوى، حيث اشتُهر هولاء الساميون باسم الآشوريين، و اشتُهرت دولتهم باسم دولة آشور (انظر، 23). “و قد اشتبكت لغات الساميين في الجنوب و الشمال مع لغات السكان الأصليين في صراع عنيف انتهى بانتصار اللغات السامية…فأصبح جميع السكان يتكلمون ألسنة سامية، سواء في ذلك السكان الأصليون و الغزاة الساميون”(23). يطلق علماء اللغة المحدثين على هذه الألسنة اسم ‘اللغات الأكادية’ نسبةً الى منطقة أكاد أو ‘اللغات البابلية – الآشورية’ نسبةً الى منطقتي بابل و آشور. يفضلُ كثير من العلماء التسمية الثانية تجنّباً للبس، و يختصرها البعض باسم ‘البابلية’ أو ‘الآشورية’ (انظر، 23). امتدّ استخدام هذه اللغات خارج دولتي بابل و آشور في عصريهما الذهبيين  الى كثير من الدول المجاورة لهما. فقد عثر في تل العمارنة ‘عاصمة مصر في عهد اخناتون’ على رسائل باللغة الأكادية تاريخها في أواخر القرن 15 و النصف الأول من القرن 14 ق.م تحتوي على مخابرات بين ملوك مصر و بعض الأمراء الشرقيين خاصةً الأمراء الكنعانيون، و عُثر في آسيا الصغرى على آثار باللغة الأكادية. (انظر، 23-24).

2) خصائصها ومدى تأثرها بلغات السكان الأصليين

صراعت الألسنة السامية لغات السكان الأصليين أمداً طويلاً و تغلبت عليها بصورة تدريجية بطيئة (انظر، 24). لكنّها تأثرت بهذه اللغات “فاللغة التي يتم لها الغلب لا تخرج سليمة من هذا الصراع، بل ان طول احتكاكها باللغات المغلوبة يترك بها آثاراً كثيرة من هذه اللغات”(24). فقد تأثرت الألسنة السامية بلغات السكان الأصليين خاصةً باللغة السومرية. فقد أخذ الساميون مفردات كثيرة من السومريين، و نال الألفاظ الأصلية للسان السامي كثير من التحريف في ألسنة المحدثين من الناطقين بها (انظر، 24-25).”استبدلت ببعض الأصوات السامية القديمة أصوات أخرى، و تغيرت مخارج بعضها و انحرف النطق بها، و سقطت بعضها في مواطن خاصة أو في جميع المواطن. فمن ذلك مثلاً الياء و الواو الواقعتان في أول الكلمة، فقد سقطتا في اللغات الأكادية في جميع المفردات”(25). و قد تميّزت اللغات الأكادية عن بقية اللغات السامية بكثير من المميزات بسبب انعزالها عن أخواتها السامية، و احاطتها بشؤون اجتماعية خاصة، و طبيعة منطقة انتشارها، و احتكاكها بلغات السكان الأصليين و ما لهم من حضارة و ثقافة. و من أمثلة ذلك، أن للفعل في اللغات الأكادية ثلاثة أزمنة أصلية: زمنين يشار اليهما بأصوات تلحق أول الفعل و هما الزمن الماضي التام و الزمن المضارع للاستقبال، و زمناً ثالثاً يشار اليه بملحق في آخر الفعل و هو الزمن المعبر عن الاستمرار. بينما  لا يوجد في اللغات السامية الأخرى الا زمنان أصيلان هما فعل انتهى زمنه و فعل لم ينته بعد. (انظر، 25).

3) رسم اللغات الأكادية

“أخذ الساميون عن السومريين الخط المسماري و استخدموه في تدوين لغاتهم الأكادية، و كان هذا الرسم في أقدم مراحله رسماً معنوياً بحتاً أي تشير رموزه الى معان لا الى أصوات، فكان يرمز فيه مثلاً بصورة النجم الى الكلمة الدالة على السماء.. أو الكلمة الدالة على الاله..ثم دخلت فيه طريقة الرسم الصوتي المقطعي، فأصبحت بعض علاماته ترمز أحياناً لمقاطع صوتية مجردة من الدلالة يتألف كل مقطع منها من صوتين أو أكثر فصورة النجم مثلاً كانت ترمز أحياناً في هذه المرحلة الى مقطع ‘أن’.” (25-26). استخدم الساميون رموز الرسم المسماري نفسه على نفس المعاني التي كانت ترمز اليها في السومرية و لكن يقرءونها بمفردات لغتهم، ترمز صورة النجم مثلاً الى المعنيين السومريين و هما السماء و الاله،و لكنهم يقرءونها ‘سمو’ بمعنى سماء في لغتهم أو ‘ألو’ بمعنى اله في لغتهم.   استخدم الساميون الرموز المقطعية لهذا الاسم مع تعديلات على دلالتها مستمدة من مفردات لغتهم، فصورة النجم مثلاً ترمز أحياناً الى المقطع ‘أن’ الذي يستخدمه السومريون بينما صورة اليد مثلاً التي ترمز في السومرية الى مقطع ‘سو’ استخدمها الساميون للرمز الى مقطع ‘كت’ بمعنى يد بالأكادية(انظر، 26). “و الخط المسماري الأكادي كان متفرق الحروف، و كان يقرأ غالباً مستعرضاً من الشمال الى اليمين. و قديماً كان يقرأ عمودياً من أعلى الى أسفل” (26).

4) اللهجات الأكادية

لا تظهر وجوه خلاف كبيرة بين اللهجات الأكادية، فلا تُظهر الأٓثار البابلية ‘المنطقة الجنوبية’ اختلافاً كبيراً في لغاتها عن اللغات عن اللغات الآشورية ‘المنطقة الشمالية’. (انظر،26). “و ليس غريباً أن تتحد لغة الكتابة في مناطق يضمها اقليم واحد و ترجع لهجاتها الى أصل واحد قريب، و انما الغريب أن تختلف فيها” (26). و لم تصل عن لهجات المحادثة في هذه المناطق الا آثار ضئيلة لا تدلنا على اختلاف يعتد به اللهجات (انظر، 27). “و لكن تدلنا القوانين التي تخضع لها اللغات في حياتها و تطورها أنه متى انتشرت اللغة في مناطق واسعة و تكلم بها جماعات متعددة و طوائف مختلفة من الناس فانه يستحيل عليها الاحتفاظ بوحدتها الأولى أمداً طويلاً، بل لا تلبث – تحت تأثير ما يوجد بين مناطقها من خلاف في الخواص الطبيعية و الجغرافية، و ما يوجد بين الجماعات الناطقة بها من خلاف في شئونهم السياسية و الاجتماعية، و في خواصهم الجسمية و النفسية و في درجة ثقافتهم و ما يحيط بهم من ظروف-لا تلبث تحت هذا كله و ما اليه أن تنشعب الى لهجات مختلفة تسلك كل منها في سبيل تطورها منهجاً يختلف عن منهج غيرها”(27). و بذا، لابد بتأثير من تلك الظروف أن تكون قد انشعبت اللغة الأكادية الى لهجات محادثة عن بعضها و تختلف عن لغة الكتابة التي وصلت الينا (انظر، 27).”فلابد اذن أن لهجات الشمال كانت تختلف في مجموعها اختلافاً غير يسير عن لهجات الجنوب” (27).

5) مراحل اللغات الأكادية

يمكن تقسيم مراحل اللغة الأكادية الى الأتي: 1- العصر السابق للقرن العشرين ق.م، حيث كانت السيطرة السياسية لمملكة بابل، وصلت آثار لغة هذه المرحلة من نقوش على تماثيل و بعض الكتب و الرسائل المحفورة على الخزف. 2- العصر الممتد من القرن العشرين الى أواخر السابع أو أوائل السادس ق.م، حيث ضعُفت بابل و سقطت أكثر من مرة في أيدي الأجانب، و بلغت مملكة آشور أوج قوتها حتى سنة 606ق.م ثم ضعُفت و انتهى عهدها. وصلت اللغة في هذه المرحلة من آثار كثيرة في المناطق الآشورية. 3- العصر الممتد من أواخر القرن السابق الى أواخر القرن السادس ق.م، حيث نهضت امبراطورية بابل مرة أخرى سنة 626 ق.م لكنها سرعان ما سقطت بيد الفرس سنة 539 ق.م. وصلت لغة الدولة البابلية الجديدة من آثار كثيرة فيها دلائل التطور اللغوي، و لهذا سُميت اللغة في هذا الدور البابلية الجديدة. 4- العصر الممتد من أواخر السادس حتى أوائل الرابع ق.م أو أواخره، اشتدت فيها غارات القبائل الآرامية على العراق، و اقتحمت الأٓرامية معاقل الأكادية حتى طغت على جميع الألسنة مع منتصف القرن الرابع ق.م في هذه المناطق. (انظر،27 – 28). “و كانت الأكادية من عداد اللغات الميتة في المحادثة. و لكنها بقيت بعد ذلك عدة قرون مستخدمة في بعض الأوساط لغة كتابة و أدب و دين، و تدلنا بعض الآثار على أنها قد ظلت مستخدمة في هذه الشئون حتى قبيل الميلاد المسيحي”(28).

الباب الثاني: اللغات الكنعانية

الفصل الأول: نظرة عامة في الشعوب الكنعانية و آثارها و لغاتها

1) الشعوب الكنعانية

“نزحت الشعوب الكنعانية على الراجح من القسم الجنوبي الغربي من بلاد العرب… و قد استقرت ببلاد فلسطين و سوريا و بعض جزر البحر الأبيض المتوسط، و أنشأت بهذه المناطق، قبل أن ينزح اليها الآراميون بأكثر من ألف سنة، حضارات زاهرة و ممالك قوية…” (30). “و أشهر الشعوب الكنعانية شعبان: الشعب الفينيقي، و الشعب العبري”(30).

2) اختراع الكنعانيين الرسم السامي

ظهر الرسم السامي لأول مرّة على الأرجح في بلاد الكنعانيين، و يمتاز عن غيره من الرسم بأنه رسم هجائي بحت، يرمز كل حرف فيه الى صوت مفرد. و هذا على خلاف الرسم الهيروغليفي عند قدماء المصريين و الرسم المسماري عند الأكاديين اللذين يمزجان الرسم الهجائي بالمعنوي (انظر، 30). “و من الراجح أن الفينيقيين هم أول من اخترع الرسم السامي و استخدمه، و قد اضطرهم الى ذلك نشاطهم التجاري و كثرة تنقلهم و تعدد علاقاتهم بمختلف الشعوب، فقد كانت هذه الشئون تقتضيهم في جميع أعمالهم السرعة في الحركة و الاقتصاد في المجهود و تحري وجوه الدقة، و الأسلوب الهجائي هو أسرع الأساليب و أدناها الى الكمال”(31). حاك الفينيقيون بعض ما اشتمل عليه الخط الهيروغليفي من صور هجائية، و نقلوا عنه ثلاثة عشر حرفاً من حروفهم الأثنين و العشرين. و انتشرت حروف الهجاء الفينيقية في معظم انحاء العالم القديم. و قد أُشتُقت منها الحروف العبرية القديمة، و اشتُقَّ منها الرسمُ العبري الحديث الذي يُسمى بالعبري المربع (انظر، 31). “و الفينيقية اشتُقّ كذلك نوعان من الرسم قريبا الشبه بالرسم العبري الحديث (العبري المربع): أحدهما الرسم التدمري أو البالميريني و الآخر الخط النبطي. و من التدمري اشتقت الحروف السريانية التي أخذت منها الخطوط المغولية و المنشورية، و من الخطين النبطي و السرياني اشتقت حروف الهجاء العربية.”(31) “و من الرسم الفينيقي اشتق كذلك الرسم الآرامي… و عن الآرامي أخذت الحروف الهندية الباكتريانية التي كانت مستخدمة في شمال الهند و من هذه الحروف اشتقت جميع الحروف المستخدمة الآن في مختلف لغات الهند و سيام و كامبدجو و ماليزيا”(31). “و من الرسم الفينيقي اشتق كذلك الرسم السبئي أو اليمني أو خط المسند، و من هذا الخط اشتقت جميع الخطوط الحبشية السامية” (32).”و من الحروف الفينيقية اشتق كذلك الرسم الاغريقي و من الرسم الاغريقي أخذت الحروف اللاتينية، و من الرسمين الاغريقي و اللاتيني تفرعت جميع أنواع الرسم المستخدمة في مختلف اللغات الأوربية في العصر الحاضر”(32). لا يُعرف على وجه اليقين بداية نشأة الخط السامي، و اعتقد العلماء ان هذا الخط لم ينتشر قبل القرن العاشر ق.م لأن نقش الملك ميشع المدون بالخط السامي أقدم ما عثر عليه حتى نهاية القرن التاسع ق.م، و دعمت هذا الرأي رسائل العمارنة التي يرجع تاريخها الى القرن 14 ق.م التي دوِّنت بالرسم المسماري الأكادي و ليس بالرسم السامي. و لكن عُثرَ بداية القرن 20 في شبه جزيرة سيناء على آثار مدونة برسم هجائي بحت قريب من الرسم الفينيقي يرجع تاريخها الى أوائل القرن 20 ق.م و أواخر القرن 15 ق.م، و كشف العالم مونتيه عن لوحة منقوشة برسم هجائي سامي بحت يرجع تاريخها الى القرن 13 ق.م تتعلق بقبر أحيرام ملك جبيل، أشهر مدن الفينيقيين. عدّل العلماء بالتالي رأيهم القديم و صار مقرّراً أن الرسم السامي كانت منتشر الاستعمال قبل القرن 10 ق.م ببضعة قرون (انظر، 32-33). “و لا يرمز الرسم السامي القديم الا للأصوات الساكنة ‘المقابلة لأصوات المد’، و هذا هو أظهر وجه من وجوه نقصه، و لكنه ليس نقصاً ذا بال في كثير من اللغات السامية، و ذلك أن أهمية الأصوات الساكنة في الدلالة تزيد كثيراً في هذه اللغات على أهمية أصوات المد… فرسم الأصوات الساكنة في الكلمة يكفي اذن مع مساعدة السياق لارشاد القارىء الى النطق الصحيح”(33). و قد شعر الساميون بهذا النقص اذ سبب لهم اضطراباً في قراءة بعضهم للغات بعض، او قراءة نصوص لغة سامية ميتة او لأساليب قديمة من لغة حية، فلجاؤوا الى الى استخدام بعض الحروف الساكنة للاشارة الى أصوات المد الطويلة، و اخترعوا علامات للدلالة عليها، و استخدموا اسلوب الشكل للرمز الى أصوات المد القصيرة (انظر، 33). “و الاتجاه الغالب للرسم السامي هو الاتجاه الأفقي من اليمين الى الشمال”(33).

3) اللغة الكنعانية الأولى وما تفرع عنها

نقف على الكنعانية في عهودها القديمة، قبل ان تنشعب الى الفينيقية و العبرية و ما اليهما، من طريقين: أحدهما ناقص يتمثل في مجموعة كلمات و عبارات كنعانية وردت مدونة بالخط المسماري في رسائل تل العمارنة. و ثانيها نقش ميشع ملك مؤاب حيث أُلفت كلمات هذا النقش  بلسان كنعاتي خالص برسم سامي بحت. اذ وجد العلماء عن وجوه شبه كبيرة بين اللهجة التي دون بها و اللغتين الفينيقية و العبرية في أصول المفردات و الأساليب و قواعد الاشتقاق و التنظيم. و لكن يُشكُّ في مبلغ تمثيل هذا النقش للغة الكنعانية الأولى لأن تاريخه يرجع الى القرن 9 ق.م و هو عهد حديث كانت فيه الفينيقية و العبرية تامتي التكوين. و هذا ما جعل العلماء لا يعدون نقش ميشع ممثلاً للأصل الأول للغة الكنعانية التي انشعبت عنها اللغة الفينيقية و اللغة العبرية انما بل يعدون لغة النقش أختاً لهما أي لهجة متفرعة من ذات الأصل (انظر، 33-34). “و مهما يكن من شيء في أمر اللغة الكنعانية الاولى، فان من المقطوع به أن اللهجات التي انشعبت عنها و من أهمها الفينيقية و العبرية… تربطها صلة قرابة وثيقة ببقية اللغات السامية، غير أنها الى اللغات الأكادية و الآرامية أقرب رحماً منها الى المجموعة الجنوبية (العربية و اليمنية و الحبشية)” (34). و لهذا، يقسّم المحدثون اللغات السامية حسب أواصر القرابة اللغوية و وجوه الشبه الى” الشعبة الشمال” التي تشمل الأكادية و الكنعانية و الآرامية، و”الشعبة الجنوبية” التي تشمل العربية و اليمنية القديمة و الحبشية. (انظر، 34).

الباب الثاني: اللغات الكنعانية

الفصل الثاني: اللغة الفينيقية واللهجة البونيَّة

1) اللغة الفينيقية الأصلية

وصلت اللغة الفينيقية من نقوش قديمة – يرجع تاريخها الى القرن 9 و 10 ق.م، و معظمها للقرن 5 ق.م- وجدت في موطن الفينيقيين الأول (صور، صيدا، جبيل.. الخ) و مواطن نفوذهم في جزر البحر الأبيض المتوسط. و وقِفَ على شبه قوي بين لغة هذه النقوش و اللغة العبرية في أصول الكلمات أي الأصوات الساكنة التي تتألف منها أصول الكلمات. بينما وُقِفَ على أصوات اللغة الفينيقية اللينة عن طريق الرسم اليوناني لبعض الأعلام و الكلمات الفينيقية(انظر، 35). “و مع ضآلة المعلومات التي يقدمها الينا الرسم اليوناني بهذا الصدد، فقد استنبط العلماء على ضوئه أن مسافة الخلف بين الفينيقية و العبرية في أصوات المد كانت أوسع كثيراً من مسافة الخلف بينهما في الأصوات الساكنة” (35). و يظهر من عبارات نقوش اللغة الفينيقية أنّ هذه اللغة تختلف عن العبرية في القواعد خاصة قواعد التنظيم، فهي مثلاً تستخدم الفعل المساعد قبل الفعل المتحدث عنه لتحديد زمنه و بيان استمراره كما في اللغة العربية ‘كان يضرب، كنا نضرب..الخ’، و هذا الأسلوب لا نظير له في اللغة العبرية (انظر، 35).

2) اللهجة البونية

انتشرت لغة الفينيقيين على سواحل البحر الأبيض و جزره، أي مدينة قرطاجة و البلاد المتخمة لها. و قد أطلق العلماء “اللهجة البونية” على اللهجة القرطاجية لتمييزها عن اللغة الفينيقية الأصلية (انظر، 36). وُقِفَ على اللهجة البونية من نقوش- تاريخها القرن 4 ق.م – وجدتْ في منطقة قرطاجنة حيث كانت كثيرة العدد لكن معظمها موجز و مضطرب الحقائق مبهم الدلالة و مختلف في الرسم عن الرسم الفينيقي الأصلي. و تتفق مع الرسم الفينيقي في الشكل العام للحروف و تقتصر على الرمز الى الأصوات الساكنة، و لذلك وُقِفَ على أصول المفردات. و لم يقف العلماء على أصواتها اللينة الا عن طريقة قطعة تمثيلية هزيلة ألفها الشاعر الروماني بلوت أواخر القرن 3 ق.م بعنوان ‘القرطاجيين’ يمكن ان يُستخلص منها أن اللهجة البونية كانت تختلف في بعض مظاهر الصوت عن اللغة الفينيقية الأصلية (انظر، 36).

3) نهاية اللغة الفينيقية واللهجة البونية

يبدو أن عمر الفينيقية في آسيا كان اطول من عمر أختها العبرية. و من الثابت أنها تأثرت بالآرامية منذ عهد بعيد قبل الميلاد المسيحي، و لم يأت القرن الأول قبل الميلاد حتى قضت الآرامية عليها كما قضت على أختها العبرية من قبل أواخر القرن 4 ق.م، و قضت قبلهما على الأكادية في أوائل القرن 4 ق.م (انظر، 36). بينما أخذت اللهجة البونية عمراً أطول رغم انعزالها عن مناطق اللغات السامية و شدة صراعها مع اللغات الأخرى في شمال افريقيا كاللهجات البربرية و اللغة اللاتينية. (انظر، 37). “و لعل اختلاف فصيلتها – أي اللهجة البونية – عن الفصائل التي تنتمي اليها هذه اللغات هو الذي أتاح لها طول البقاء و جعل سبل التغلب عليها وعرة عسيرة كما تنص على ذلك قوانين الصراع اللغوي” (37). و توجد أدلة تُشير الى أن اللهجة البونية ظلت لغة حديثة بين السكان حتى القرن 5 الميلادي أي بعد الاحتلال الروماني بأكثر من ستة قرون. و توجد أدلة تشير الى أنها بقيت في بعض المناطق حتى الفتح العربي لشمال اقريقيا في القرن 7 الميلادي الى أن صرعتها اللغة العربية. و تُشير آثار اللهجة البونية من فترة سقوط قرطاجة بأيدي الرومان في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد انها تطورت في أصواتها و مفرداتها و دلالاتها حتى بعدت كثيراً عن أصلها القديم و لهذا سُميت في هذه المرحلة بالبونية الحديثة. (انظر، 37).

الباب الثاني: اللغات الكنعانية

الفصل الثالث: اللغة العبرية

1) أهميتها و المتكلمون بها و صلتها باللغات الكنعانية الأخرى

“تعد اللغة العبرية أهم اللهجات الكنعانية على الاطلاق، و أوسعها انتشاراً، و أكثرها انتاجاً في مختلف فنون القول: في الدين و الآداب و التاريخ و الفلسفة و العلوم… و حسبها ثروة و شرفاً أنه قد دوِّن بها جميع أسفار العهد القديم و كتب المشناة…”(38). “و على الرغم من تسميتها اللغة العبرية، فهي ليست لغة جميع العبريين، بل لغة فرع واحد من فروعها و هو فرع بني اسرائيل، و قد نزح بنو اسرائيل من شبه جزيرة سيناء و أغاروا على بلاد كنعان، ففتحوا قسماً كبيراً منها و دانت لسلطانهم و استقروا بفلسطين حوالي القرن الثالث عشر ق.م”(38).   تشابهت لغة هولاء النازحون – العبرية- مع لغات أهل هذه البلاد في الصوت و القواعد و أصول المفردات، و ألفت معها شعبة واحدة.(38) و يعلّلُ العلماء المشابهة بين العبرية   بقية اللغات الكنعانية بثلاثة آراء.[أ] انتقل الى العبرية من لغات السكان الأصليين بالأقتباس كثير من المفردات و مظاهر الصوت و الدلالة و قواعد الصرف و الاشتقاق. و هذا أضعف الآراء لأن المشابهة بين العبرية و بقية اللغات الكنعانية غير سطحي لدرجة أن يُفسَّرَ بالأقتباس الذي يجري في المفردات لا القواعد. و يجري في القواعد  كايذان لزوال اللغة المُقتبسة للقواعد (38). [ب] كان بنو اسرائيل في الأصل من هذه البلاد – بلاد كنعان- فهاجروا منها ثم عادوا اليها عن طريق سيناء بحيث ظلوا محافظين في مهجرهم على لسانهم القديم. و هذا ما تدعمُه الكتبُ المقدسة في حديثها عن بني اسرائيل. [ج] انهزمت اللغة الأصلية لبني اسرائيل في الصراع مع اللسان الكنعاني بسبب كثرة عدد الكنعانيين، فانقرضت العبرية و انتقلت لبني اسرائيل لغة السكان الأصليين، و لكن أصاب هذه اللغة تحريفٌ في أصواتها و مفرداتها و بعض مظاهر قواعدها ما ولَّدَ لهجةً كنعانيةً متميّزةً(39). لا تتوفّر معلومات تاريخية كافية تقطع برأي من هذين الرأيين الأخيرين، و لكن المشهور بين المحدثين هو اعتبار بني اسرائيل من الشعوب الكنعانية(39).

2) المراجع التي وصلت الينا اللغة العبرية عن طريقها

“وصلت الينا اللغة العبرية عن طريق ثلاثة مراجع: أحدها الكتب التي دونت بها، و هي أسفار العهد القديم و المشناة و ملحقاتهما و عدد كبير من المؤلفات القانونية و الفلسفية و العلمية و الأدبية التي دونها بهذه اللغة علماء اليهود في مختلف العصور، و ثانيها بعض نقوش أثرية على لوحات من الصخر و المعدن، و ثالثها استخدام اليهود لها في تلاوة بعض الأوراد الدينية و آيات التوراة.. و ما الى ذلك”(39). يوجد نقص في معلوماتنا عن اللغة العبرية، و هذا يتمثّل في: [أ] وصل الينا من اللغة العبرية لغة الكتابة كما هو شأن الأكادية و الفينيقية أما اللهجات المستخدمة خلال زمن استخدام بني اسرائيل العبرية فلم يصل الينا منها ما يُعتد به (39). [ب] أنّنا لم نقف بشكل يقيني على كيفية النطق بأصواتها و مفرداتها. اذ ليس في مراجعها الثلاثة ما يبيّن كيفية النطق بشكل يقيني. فلا تمثل الكتب المدونة أو النقوش النطق العبري الا بصورةٍ ناقصةٍ لأن الرسم العبري – مثل السامي- يقتصر على الرمز الى الأصوات الساكنة في المرحلة الأولى. و هذه الأصوات لم تمثل تمثيلاً كاملاً. و لا يعطي المرجع الثالث – تلاوة اليهود بالعبرية- النطق العبري الصحيح اذ لم يهتم العلماء بملاحظة التلاوة الا منذ القرن السابع الميلادي بعد أن انقرضت العبرية بأكثر من عشرة قرون (40).

3) مراحل اللغة العبرية

مرّت اللغة العبرية بمراحلٍ كثيرةٍ متأثرة بالشئون السياسية حيث تعود هذه المراحل الى عصرين هما:  يبدأ العصر الأول من نشأة العبرية في القرن 13 ق.م الى أواخر القرن 4 ق.م حيث كانت لغة حيّة يتكلمها بنو اسرائيل و تسمى ‘اللغة العبرية القديمة’ أو ‘عبرية العهد القديم’. ينقسم هذا العصر نفسه الى مرحلتين هما: [١] تنتهي المرحلة الأولى بنفي بابل سنة 587 ق.م حيث تمتع بنو اسرائيل فيها باستقلال سياسي كامل، و اتسعت العبرية فيها اتساعاً كبيراً. اذ دوّنت بها أسفار العهد القديم آثار تلك الفترة مثل قصيدة دينية منسوبة لحكيمة من بني اسرائيل تدعى ‘دبوراه’ التي ترجع الى عهد استقرار بني اسرائيل في فلسطين. و وصل كذلك من ذلك العهد نقش اللوحة التذكارية لنبع عين السلوان قرب مدينة بيت المقدس تعود للقرن 8ق.م (41-42).[٢] تبدأ المرحلة الثانية من نفي بابل سنة 587 ق.م و تنتهي بانقراض العبرية من التخاطب أواخر القرن 4 ق.م و حلول الآرامية محلها. اذ دبّت عوامل فناء العبرية أمام قوة الآرامية رغم محاولة أحبار اليهود و رؤساءهم تقوية لغتهم (42). [ب] يبدأ العصر الثاني من عهد انقراض العبرية في التخاطب و بقاءها في الكتابة و تلاوة الأوراد في أواخر القرن 4 ق.م الى الحصر الحاضر، و تسمى ‘العبرية اللاحقة’ للعهد القديم (42). و ينقسم هذا العصر الى مرحلتين متميزتين: [١] تنتهي المرحلة الأولى بفاتحة العصور الوسطى و تسمى العبرية فيه ‘العبرية الربانية أو التلمودية’ لأن أهم ما وصل من آثارها هو بحوث الربانيين في التلمود التي تألفت من 63 كتاباً بالعبرية أطلق عليه اسم ‘المشناة’ ثم شُرحت بالآرامية باسم ‘الجمارا’، و اطلق على كلاّ من المشناة و الجمارا اسم ‘التلمود’. تتباين فصاحة اللغة في هذه الفترة بتباين المؤلفين، و يظهر فيها تأثرها الشديد باللغة الآرامية، و يظهر فيها بعض مظاهر التأثر ببعض اللغات الهندية – الأوربية خاصةً اليونانية و اللاتينية و الفارسية (42 -43). [٢] تبدأ المرحلة الثانية من فاتحة العصور الوسطى حتى العصر الحاضر، و تسمى العبرية فيها ‘العبرية الحديثة’. كتب بالعبرية الكثير من علماء اليهود الذين ينتمون الى شعوب مختلفة و يتكلمون لغات مختلفة، فنهم الألمان و الأنجليز و الفرنسيين و منهم العرب. فقد ظهر في هذه المرحلة تأثر العبرية باللغة العربية و اللغات الأوربية الحديثة. تختلف فصاحة العبرية في هذه المرحلة تبعاً لاختلاف المؤلفين. و قد اتجه اليهود في أواخر القرن 19 م الى احياء اللغة العبرية و توسيع نطاق استعمالها في كافة الشئون (43).

4) رسم اللغة العبرية

من الرسم الفينيقي، اشتُقّ الرسم العبري الذي يتألف اثنين و عشرين حرفاً ترمز الى اثنين و عشرين صوتاً ساكناً، و يكتب من اليمين الى الشمال متفرق الحروف ما عدا الألف و اللام اللتان ترسمان متصلتين(44). مرّ الرسم العبري في أربعة مراحل، هي: 1- كانت أشكال حروفه لا تختلف عن أشكال الحروف الفينيقية القديمة، و تُعرف بهذه المرحلة ‘العبري القديم’. 2- ظهر تأثره بالرسم الآرامي و ظهر رسم جديد يدعى ‘الرسم العبري الحديث’ أو ‘العبري المربع’ أُستُخدِم للشئون الدينية فقط. 3- أُدخل اصلاحٌ جديدٌ في القرن 6 ميلادي على الرسم حيث رمَزَت الألف و الهاء و الواو و الياء الى أصوات المد الطويلة ما ساعد في ضبط النطق و حفظ الكلمات من التحريف.  4- أُدخلَ اصلاحٌ جديدٌ في العبرية الحديثة حيث اخترع نظامُ الحركات للأشارة الى أصوات المد القصيرة(44). لقد اتُّخِذت ثلاثة طرق لرسم الحركات، وهي: أ- الطريقة الطبرية نسبةً الى مدرسة من العلماء تسمى مدرسة طبرية في فلسطين. و ترمز هذه الطريقة الى أصوات المد القصيرة بعلامات تحت الحروف، و هي طريقة شهيرة حتى الحاضر. أُشتُهر في النطق بالكلمات المدونة بهذه الطريقة أسلوبان هما: أسلوب اليهود الغربييم أو الأسلوب الألماني، و أسلوب اليهود الشرقيين أو الأسلوب البرتغالي. ب- الطريقة العراقية أو البابلية اخترعها مدارس أحبار اليهود بالعراق، و هي ترمز الى أصوات المد القصيرة بعلامات توضع فوق الحروف، و هذه طريقة قد انقرضت مع مدارسها. ج- الطريقة الفلسطينية التي تشير الى هذه الأصوات بعلامات فوق الحروف مثل الطريقة العراقية و لكن تختلف عنها في صورة العلامات و دلالتها(44). و قد أُستخدمتْ أحياناً رسوم أجنبية في تدوين العبرية خاصةً الرسم العربي و الرسم اليوناني(44).

الباب الثالث: اللغة الآرامية

1) نشأة الآرامية وانتشارها

انتقلت القبائل الآرامية الى الصحراء المتاخمة لمنطقة ميزوبوتاميا منذ القرن 15 ق.م ما سببت قلقاً للبابليين و الآشوريين. و نزحت بعض قبائلهم الى بلاد سوريا و فلسطين في القرن 15 ق.م و جاوروا الكنعانيين و شعوب غير سامية ذات حضارة راقية(46). انقسمت مواطن الآراميين الى قسمين: [أ] قسم في الشمال الغربي على تخوم البلاد الكنعانية. اخضع الآراميون السكان الأصليين لسلطانهم، و انتصرت لغتهم الآرامية على لغات، و أقاموا بها دويلات آرامية. و قد انتفعوا من السكان الأصليين و من جيرانهم الكنعانيين في مختلف مظاهر الحياة. [ب] و قسم في الشرق في صحراء ميزوبوتاميا على حدود بابل و آشور. استقر هذا القسم بعد استقرار الشمال الغربي بزمن طويل. اذ اقتحمت الآرامية معاقل الأكادية و هزمته، و صارت في منتصف القرن 4 ق.م هي اللغة الطاغية، كما قضت في أواخر القرن 4 ق.م على العبرية و على الفينيقية في القرن 1 ق.م، و هكذا أصبحت الآرامية لغة التخاطب السائدة في بلاد العراق و سوريا و فلسطين و ما اليها، و اتسعت أكثر بين سنتي 300 ق.م و 650 بعد الميلاد. و نالت الآرامية مكانةً دوليةً في كثير من المناطق المجاورة خاصةً في ظل الحكم الفارسي، و امتد نفوذها الى آسيا الصغرى و بلاد تدمر و النبط و شبه جزيرة سيناء و مصر (46 -47). “و لم يقف نفوذها -أي الآرامية- عند هذا الحد، بل جاوزه الى مناطق اللغة العربية نفسها، فكانت الآرامية تستخدم لغة كتابة في بعض المناطق العربية اللغة، و خاصةً في بلاد النبط…و تركت فضلاً عن هذا، آثاراً ظاهرةً في اللهجات العربية البائدة…خاصةً في واحات تيماء و الحجر (مدائن صالح) و العلا”(47- 84).

2) اللهجات الآرامية

انشعبت الآرامية – بسبب اتساع مناطق استعمال و تعدد الناطقين بها- الى مجموعتين من اللهجات، هما: [١] اللهجات الآرامية الشرقية و تشمل الآرامية ببلاد العراق الشمالية و الجنوبية. [٢] اللهجات الآرامية الغربية و تشمل اللهجات في سوريا و فلسطين و شبه جزيرة سيناء. تختلف المجموعتين عن بعضهما في كثير من مظاهر الصوت و الدلالة بل و القواعد أيضاً مثل استعمال اللهجات الآرامية الياء في أول المضارع علامة على اسناده للمفرد الغائب بينما استعملت اللهجات الشرقية النون بدلاً من الياء، كما أصبحت الملحقة بآخر الاسم (آ) في اللهجات الشرقية جزءاً من الكلمة و فقدت وظيفتها كعلامة تعريف (48). تنقسم المجموعة الشرقية الى لهجات، أهمّها: 1– اللهجة الجنوبية التي شرح بها يهود مدرسة بابل كتاب المنشاة باسم الجمارا.  2- اللهجة المندائية أو المندعية التي تكلّمت بها طائفة المندائيين التي تقطن جنوب العراق. 3- اللهجة الحرانية التي تنتسب الحى مدينة حران شمال العراق، و قد كانت مركز الثقافة الآرامية، و قويت باحتكاكها مع الفلسفة اليونانية. و قد انتفع العرب بالثقافة الحرانية خاصةً في الفترة العباسيّة(48). 4- اللهجة السريانية، و هي لهجة مدينة ‘ادسا’ كما يسميها اليونان أو ‘أرهى’ كما يسميها السريان أو ‘الرها’ كما يسميها العرب،و هي تقع شمال مدينة حران. تعدُّ السريانية أهم لهجة آرامية و أغناها فقد كانت الرها مركز الثقافة في الشرق المسيحي. و زاد من قوتها احتكاكها باليونانية و اقتباس مفرداتها و تأثرها بأساليبها و مناهج التفكير اليوناني. و بقيت السريانية محتفظةً بوحدتها حتى القرن 5 ميلادي. اذ حصل خلاف بين علماء السريان حول طبيعة المسيح، فانقسمت الكنيسة السريانية الى:[أ] السريان الغربيين التابعين للامبراطورية اليونانية الذين اعتنقوا مذهب يعقوب بارادوس القائل بوحدة طبيعة المسيح، و يطلق عليهم ‘اليعاقبه’. [ب] السريان الشرقيين التابعين للامبراطورية الفارسية الذين اعتنقوا مذهب نستوريوس القائل بازدواج طبيعة المسيح بين الالهية و الانسانية، و يطلق عليهم ‘النساطرة’. انقسمت السريانية بعدئذٍ الى لهجتين: اللهجة اليعقوبية و اللهجة النسطورية، و اتسعت بينهما مسافة الخلاف في الصوت و الدلالة و القواعد و الرسم و غيرها. و أخذ هذا الخلاف طابعاً رسمياً بعد الفتح العربي حيث خشي كلا الفريقين على لهجَاتهما من التحريف فتحرف عبارات الكتاب المقدس ما دفعهما الى ضبط قواعد لهجتيهما و تحديد الأصوات و غيرها، و نجمَ عن ذلك طريقتان في قراءة الكتاب المقدّس: الطريقة الشرقية أو النسطورية التي تعدّ الأقرب للغة القديمة، و الطريقة الغربية أو اليعقوبية(49). و أشهر لهجات المجموعة الغربية هي: 1-الآرامية الغربية يرجع تاريخها الى القرن 8 ق.م لم يصل منها الا بعض النقوش. 2- اللهجة التي دون بها بطرق مباشرة أجزاء من سفرى عزرا و دانيال و آية من سفر أرمياء.  3- الآرامية الفلسطينية الحديثة التي ترجم بها اليهود في الغرب العهد القديم عن العبرية و شرحوا بها كتاب المنشاة. و استخدمها المسيحيون في سوريا و فلسطين في ترجمة العهدين القديم و الجديد عن اليونانية بعد أن تحرروا مم النفوذ السرياني من ناحيتي الثقافة و الدين منذ القرن 3 ميلادي (50).

3) الآثار التي وصلت الينا عن الآرامية

أولاً، وصلت الينا من مجموعة اللغات الآرامية الغربية عن طريق:1- النقوش مثل نقوش لملك حماة يرجع تاريخها الى القرن 8 ق.م،  نقوش لملوك شمأل يرجع تاريخها الى ما قبل 8 ق.م، و منها نقش الملك ‘برركب’. و قد كتبت هذه النقوش برسم قريب من الرسم الكنعاني القديم لكنه يتميز عنه ببعض الخواص(50-51). 2- دوّنت بعض أجزاء العهد القديم مباشرةً باللغة الآرامية مثل قسم من سفر عزرا يعود الى 300 ق.م،و قسم من سفر دانيال يعود الى 167 أو 166 3ق.م و آية من سفر أرمياء(51).3-الآثار المصرية و هي رسائل و عقود مدونة بالآرامية يرجع تاريخها الى القرن 6 و 5 ق.م. اختلف العلماء عن سر كتابتها بالآرامية. رأى بعضهم أن كتبة العقود بمصر في ذلك العهد كانوا يهود و لغتهم حينئذٍ الآرامية، و رجّح كثير من المحدثين أن جزيرة أنس الوجود قطنها في ذلك العصر جالية يهودية تتكلم الآرامية(51). 4- الآثار التدمرية، و كثيرة مدونة بالآرامية أهمها نقش الضريبة المفروض على البضائع التي تدخل مدينة تدمر. و من الراجح، أن أهل تدمر آراميون و ان كانوا يخضون سياسياً لبعض أسرات عربية(51-52). 5-الآثار النبطية، و هي آثار مدونة بالآرامية وجدت في بلاد النبط خاصة البترا، بسطرا و بصرى بالشام، و العلا بالحجاز في واحتي تيماء و الحجر6، يتردد تاريخها بين اوائل القرن 1 ق.م و أوائل القرن 4 ميلادي، و هي تشبه الفلسطينية الحديثة دوّنت برسم نبطي. اختلف العلماء حول أصل النبطيين، رأى بعضهم أن معظم الأنباط من أصول آرامية، و يميل كثير من الباحثين أنهم من أصول عربية لكنهم استخدموا الآرامية لغة كتابة(52). 6- الآثار الممثلة للآرامية الفلسطينية في أدوارها الحديثة من ميلاد المسيح. و هذه الآثار تنقسم الى قسمين: [أ]الآثار اليهودية التي تمثّل جهود الربانيون و الأحبار في نشر تعاليم الدين اليهودي بنقل الكتب المقدسة و المؤلفات الدينية التي دوّنت بالآرامية. اذ كانوا يدونون الآية بالعبرية فيما يخص العهد القديم و يتبعونها بترجمتها بالآرامية، و هذه الكتب سُمِّيت ‘الترجوم’. و كانوا يدوِّنون الأصل فيما يخص المشناة بالعبرية و يشرحونه شرحاً بالآرامية، و هذه تُسمى ‘جمارا'(52-53). [ب] الآثار المسيحية التي لم يصل منها شيء يعتد به في القرون المسيحية الأولى. رغم أن الآرامية كانت لغة التخاطب في ذلك العهد و هي لغة المسيح و الحواريون الذين كتبوا أسفار الأناجيل، لم يصل الينا الأصل الآرامي لهذه الأسفار، أو الراجح أن هذه الأناجيل لم تدوّن بالآرامية الا انجيل متى الذي دوِّن بالارامية و لكن لم يصل الينا، و ما وصل منها هو ترجمتها اليونانية. أنّ أهم ما وصل الينا من هذه الآثار هو ما دوَّنه مسيحيو فلسطين بالآرامية بعد أن استقلوا عن السريان ثقافياً و دينياً أواخر القرن 5 الميلادي اذ ترجموا العهد القديم و الجديد من اليونانية الى الآرامية (53). ثانياً، وصلت الينا اللغات الآرامية الشرقيّة عن النقوش الممثلة للارامية الشرقية في أقدم عهودها، وصلت منها آثارٌ قليلةٌ في مدينة آشور، يرجع تاريخها الى القرن 9 ق.م و معظمها يرجع الى القرنين 5،6 ق.م، و هي مدونة بالرسم الآرامي القديم(54). 2- الآثار السريانية: وصل منها ما يمثل العهد الوثني أثر واحد هو خطاب مارابر سىبيون. وصل منها ما يمثل العصر المسيحي آثارٌ كثيرةٌ أهمها ترجمة العهدين القديم و الجديد من اليونانية  من القرن 2 الى 4 بعد الميلاد، و منها مؤلفات دينية تشمل تراجم و تفاسير طائفة من القسس، و مناقشات دينية و قانونية للنساطرة و اليعاقبة، و شرائع و قوانين توراتية و انجيلية، و قصائد دينية. يتفق الخط السرياني ‘السطرنجيلي’ مع بقية الخطوط الارامية في الشكل العام للحروف و السير الأفقي من اليمين الى الشمال. انقسم السريان الى نساطرة و يعاقبة، فاختلف الرسم عند كلّ منهما، فاشتق من السطرنجيلي القديم خطان: الخط النسطوري، و خط السرتو أو الماروني أو اليعقوبي. و يختلف الرسمان كثيراً، أهمها يشير الرسم النسطوري الى أصوات المد بنقط فوق الحروف أو تحته بينما يشير الرسم اليعقوبي لهذه الأصوات بحروف يونانية(55). 3- تلمود بابل حيث شرحت مدارس اليهود في بابليونيا المشناة بلهجاتها الآرامية باسم ‘تلمود بابل’ ابتداءً من القرن 4 بعد الميلاد الى القرن 6 ميلادي(55). 4-آثار الطائفة المندئية اذ لا تختلف لهجة هذه الآثار كثيراً عن لهجة تلمود بابل، و يرجع تاريخها الى القرنين 7، 9 بعد الميلاد. و يظهر فيها عناية شديدة بأصوات المد(55). “هذا و قد وصلت الينا الآرامية كذلك عن طريق السماع، فهي لا تزال مستخدمة لغة تخاطب حتى العصر الحاضر في بعض المناطق…”(55).

4) نهاية الآرامية

اقتحمت اللغة العربية معاقل الآرامية حتى قضت عليها في الميدانين الغربي و الشرقي(55). انقرضت الآرامية من لغة التخاطب في الغرب بعد الفتح العربي في معظم مناطق سوريا و فلسطين بعد صراع مرير و طويل مع اللغة العربية. لقيت العربية مقاومة عنيفة في المناطق الجبلية التابعة لبلاد لبنان الذي ظلت الآرامية في بعض قراه لغة حديث حتى أواخر القرن 17 ميلادي و قد أثرت في اللغة العربية، و بقي في لهجاتها كثيرٌ من آثار اللهجات الآرامية القديمة(55). و ما تزال الآرامية مستخدمة في الحاضر في ثلاث قرى من هذه البلاد هي معلولة و جبعدين و بحفا. و يسمي العلماء لهجات هذه القرى ‘الآرامية الحديثة الغربية’ او ‘السريانية الغربية’ التي ابتعدت كثيراً عن أصلها الأول بسبب تطورها الذاتي و طول عمرها و احتكاكها باللغة العربية(56).لقيت العربية في الشرق مقاومة اللهجات الآرامية خاصةً السريانية الى ان انقرضت الارامية الشرقية من التخاطب في القرن 7 ميلادي و ان بقيت السريانية مستخدمة لغة كتابة و أدب و دين في كثير من الأوساط حتى أواخر القرن 14 ميلادي. و لكن ما تزال تحتفظ بعض المناطق الجبلية في الحاضر على لهجاتها الآرامية مثل بعض قرى طور عابدين و بعض بلاد في شرق الموصل و شماله و جبال الكرد و الشاطىء الشرقي لبحيرة أورميا. و يُطلق على هذه اللهجات اسم ‘الآرامية الشرقية الحديثة’ أو ‘السريانية الحديثة’ التي ابتعدت كثيراً عن أصولها الأولى بسبب التطور الذاتي و طول عمرها و تأثرها بالعربية و الفارسية و الكردية(56).

الباب الرابع: اللغة اليمنية القديمة

1) نشأتها ومنزلتها من الفصيلة السامية وصلتها باللغة العربية

تعدّ اليمن أقدم مواطن الساميين التي أقاموا فيها حضارة راقية وصلت الينا أخبار و لغاتها القديمة من نقوش كثيرة عُثرَ عليها في بلاد اليمن و شمال بلاد الحجاز. يطلق العلماء على هذه اللغات اسم ‘اليمنية القديمة’ أو ‘العربية الجنوبية القديمة’ أو ‘القحطانية’، و تُسمّى أحياناً ‘الحميرية’ أو ‘السبئية’. و تختلف هذه اللغات عن اللغات العربية -كما يظهر في النقوش- اختلافاً كثيراً في مظاهر الصوت و الدلالة و القواعد و الأساليب و خاصّةً المفردات (58). “فاللغات اليمنية القديمة مستقلة تمام الاستقلال عن اللغة العربية؛ و لكنها تؤلف معها و مع اللغات الحبشية السامية شعبة لغوية واحدة يطلق عليها اسم ‘الشعبة السامية الجنوبية’ و ذلك أن صلات القرابة التي تربطها بهذين الفرعين أقوى كثيراً من صلات القرابة التي تربطها بشعبة اللغات السامية الشمالية…” (95). و تختلف هذه اللغات الثلاث في قربها من بعض، فصلة القرابة بين اللغات اليمنية القديمة و اللغات الحبشية السامية أقوى من صلة كل منهما مع اللغة العربية. و هذا لأن اللغات الحبشية انشعبت عن اللغات اليمنية، و أن المهاجرين الأولين من اليمن هم مَنْ نشرُ اللسان السامي في بلاد الحبشة(60). لا يُعرف على وجه الدقّة تاريخ نشأة اللغة اليمنية و لكن تدلّنا الشواهد أنها في عصور قديمة قبل الميلاد المسيحي حيث كانت لغة حديث و كتابة و آداب(60).

2) أدوارها وأقسامها

تنقسم اللغات اليمنية القديمة الى لهجات، هي: 1- اللهجات المعينية التي تُنسب الى المعينيين الذين بنوا مملكةً قديمةً جنوب اليمن عاصمتها مدينة ‘قرنا’ أو ‘قرنانا’ في القرن 8 ق.م حسب الآثار (60). 2- اللهجة السبئية التي تُنسب الى السبئيين الذين قوضوا ملك المعينيين و بنوا مملكةً -مملكة سبأ- عاصمتها مدينة مأرب. وصلت هذه اللهجة عن نقوش كثيرة وجدت في بلاد اليمن خاصةً مأرب، و يبدو أنه لم يكن لهم جاليات في الشمال مثل المعينيين لذلك لا نقوش بالسبئية في الشمال. ظلّ للسبئيين و لهجتهم السيادة في اليمن حتى انتزعها منهم الأحباش في أواخر القرن 4 ميلادي(61). 3- اللهجة الحميرية القديمة التي تُنسب الى حمير المنازعة للسبئيين دون أن تقوى عليهم الى أن سيطر الأحباش لليمن و طُردُ منها سنة 400م، فتولى الحكم اسرة حميرية و بزغت نجم اللغة الحميرية(61). 4- اللهجات القتبانية و تُنسب الى قبائل قتبان التي أقامت ممكلتها في المناطق الساحلية شمال عدن، انقرضت على يد مملكة سبأ و اندمجت قبائلهم في السبئية أواخر القرن 2 ق.م(61-62). 5- اللهجة الحضرمية و تُنسب الى قبائل حضرموت التي أنشأت حضارةً زاهرةً في المنطقة الجنوبية، و صارعت مملكة سبأ مدة طويلة الى أن هزمتها سبأ كما هزمت قتبان(62). يُلاحظ أن ما وصل من هذه اللهجات يمثلُ لغة الكتابة أو لغة الآداب، فلا يظهر لذلك من النقوش أثر تطور جوهري لهذه اللهجات، اذ لا يوجد فرق كبير بين اللغة المدون بها أقدم نقوشها و أحدثها، فلغات الكتابة تميل دائماً الى المحافظة و الجمود (62).

3) الرسم اليمني

يُعرف الخط اليمني بالخط المُسند و هو مشتقٌّ من الرسم الكنعاني لكن يمتاز عنه بجمال التنسيق و الأشكال الهندسية المنظمة، و يُكتب مستعرضاً من اليمين الى الشمال، و يُكتب احياناً ‘بالطريقة الثعبانية’ يُرسم السطر الأول من اليمين الى الشمال و الثاني من الشمال الى اليمين و هكذا، عدد حروفه تسعة و عشرين ترمز الى تسعة و عشرين صوتاً ساكناً، و لا يرمز هذا الرسم الى أصوات المد أبداً مثل كل أنواع الرسم السامي القديمة (62-63).

4) نهاية اللغات اليمنية

حدث صراع بين اللغات اليمنية القديمة و اللغة العربية انتهى بانتصار العربية أواخر العصر الجاهلي بسبب تفوق العربية في الثقافة و الآداب، و غزارة مفرداتها و دقة قواعدها، و قدرتها على التعبير، و نفوذ العربي في التجارة و السياسة و الدين و الثقافة، و ضعف بلاد اليمين التي تناوب على حكمها الأحباش و الفرس(63). طال التحريف اللغةَ العربية في أصواتها و مفرداتها و قواعدها بتأثيرٍ من ألسنةِ أهل اليمن، و أحدثت الظروف الطبيعية و الجغرافية و الاجتماعية في اليمن تأثيراً على ألسنة العرب في بلاد اليمن، فنشأت فيها لهجة عربية أو لهجات عربية تختلف عن لهجات الشمال في المظاهر اللغوية (63-64). و لكن لم ليزيد هذا الخلاف على الخلاف بين لهجات اللغة الواحدة، اذ كان أهل الحجاز و نجد يتفاهمون مع أهل اليمن، فقد وفد على رسول الله عليه الصلاة و السلام وفود من قبائل اليمن و تفاهم معهم دون مترجم، و ذهب علي بن أبي طالب و معاذ الى اليمن موفدين من رسول الله عليه السلام دون مترجم، و عقدَ العرب الأسواق الشعرية و الأدبية في اليمن زمن الجاهلية مثل سوق الشحر و سوق صنعاء ما يدل على أن بلاد اليمن كانت قبل الاسلام بعد طويل عربية اللسان (64). و قد تغلبت اللغة العربية على اللغات اليمنية القديمة في التخاطب و ميادين الآداب و الكتابة و لم ينلها من التحريف في هذه الميادين من نالها في المحادثة، اذ ظلت لغة الكتابة خالصة فصيحة لا تختلف عن عربية أهل الشمال لأن طبيعة لغات الكتابة متئدة الحركة بطيئة التغير(64). لا غرابة اذن ان كتب شعراء اليمن في الفترة الأخيرة من العصر الجاهلي باللسان العربي المبين بعدما انقرضت لغاتهم القديمة، و ما كان لهم أن يؤلفوا بلهحات محادثاتهم التي تختلف عن العربية الفصحى لأن لهجات المحادثة لا تصطنع في ميادين الآداب و لأن لغة الأدب دائماً تميل الى الجمود و لا تساير لغات التخاطب. فقد أخطأ بعض المحدثين في انكارهم للأدب الجاهلي على أنّ منه ما يُنسب لليمانيين، فهم يؤلفون بلغةٍ عربيةٍ، و فاتهم أيضاً أن أقدم ما لدينا عن العصر الجاهلي يرجع الى اواخر القرن 5 و اوائل القرن 6 الميلادي بعد أن تمّ للغة العربية التغلب على اللغات اليمنية القديمة و صارت لغة المحادثة و الأدب و الكتابة(65). تساءل بعض الباحثين، طه حسين في كتابه “الأدب الجاهلي” (92): كيف استطاعت اللغة العدنانية أن تكون لغة أدبية للقحطانيين قبل الاسلام مع أن السيادة السياسية و الاقتصادية التي تفرض اللغة على الشعوب للقحطانيين دون العدنانيين؟ فات هولاء الباحثين أمران هامان: 1– زالت سيادة اليمن تماماً قبل الاسلام منذ أواخر القرن 4 الميلادي حيث شهدت بلاد اليمن فتن و حروب، و تناوب الأحباش و الفرس على حكمها. بينما أخذ نفوذ البلاد العربية الشمالية في نواحي مختلفة بالبزوع و التغلغل في بلاد كثيرة و منها اليمن. ثمّ ان اللغة العربية كانت أرقى من اللغات اليمنية القديمة ثقافة و آداباً، و أغزر مفردات، و أدق قواعد، و أقدر منها على التعبير ما هيأ ذلك كله الى تغلب العربية (65-66). 2– لا تقتصر أسباب تغلّب لغة على لغة على السيادة السياسية و الاقتصادية بل توجد عوامل أخرى مثل عدد الناطقين باللغتين المتصارعتين، و كثافتهما و ضغطهما على الحدود المجاورة لهما، و مبلغ رقيّهما و ثروتهما و غزارة مفرداتهما، و دقة قواعدهما، و اتساعهما للتعبير. فالسيادة السياسية و الاقتصادية لا تكفي وحدها لتغلب لغة على لغة، فلم تتغلب اللغة اللاتينية على اللغة اليونانية مع ان اليونان كانوا خاضعين للرومان، و لم تنتصر العربية على الفارسية مع ان الفتح العربي طال بلاد الفرس، و لم تتغلب التركية على أية لغة من لغات الأمم التي حكمتها العثمانية بأوربا و آسيا و أفريقيا(66). بل حدث أن غلبت لغة الأمة المقهورة سياسياً على لغة أسيادها القاهرين حينما توفرت أسباب التغلب اللغوي مثلما حدث للغة الغزاة النورمانديين مع لغة الشعب الأنجليزي(66). و قد ترسّخت اللغة العربية في بلاد اليمن بعد الاسلام خاصةً بعدما اعتنقه اليمنيون(66). و فلت من هذا المصير في اليمن مناطق متطرفة منعزلة، احتفظت بلهجاتها القديمة حتى العصر الحالي، أشهرها: اللهجة المهرية التي يتكلم بها الان في منطقة مهرة شرق حصرموت، و لهجة الشحر أو اللهجة الأخكيلية المنتشرة في منطقة جبلية في الشرق من منطقة المهرية، و اللهجة السقطرية و هي لهجة جزيرة سقطرة و الجزر حولها. و قد بعُدت هذه اللهجات غن أصولها الأولى و اللغات السامية جميعها بسبب عوامل التطور الطبيعب و كثرة المراحل و طول عمرها و احتكاكها بغيرها من اللغات خاصةً العربية(66-67). يشتَهرُ القول عند العرب بأن اللغة اليمنية و اللغة العربية تمثلان لهجتين للغة واحدة، و أن الخلاف بينهما لا يعدو أموراً يسيرةً في الأصوات و المفردات و بعض القواعد ما دفعهم الى تقسيم العربية الى قسمين: العربية العدنانية أو المضرية و هي لغة الشمال ‘الحجاز و نجد و ما اليهما’، و الحميرية أو القحطانية و هي لغة أهل اليمن(67). انّ هذا الرأي صحيح فيما يتعلق بلهجات أهل اليمن بعد تغلّب العربية على ألسنة أهل اليمن القديمة. و لكنه غير صحيح فيما يتعلق باللغات اليمنية القديمة، فهذه ليست من اللغة العربية في شيء و ان كانت تؤلف معها شعبة لغوية واحدة، و هذا ما فَطِن له بعض باحثي العرب كأبي عمرو بن العلاء، فقال كما روى عنه  بن سلام في ‘طبقات الشعراء’: ما لسان حمير و أقاصي اليمن بلساننا و لا عربيتهم بعربيتنا (67).

الباب الخامس: اللغات الحبشية السامية

1) نشأتها وخواصها

هاجرت عشائر سامية من جنوب بلاد العرب ‘اليمن’ الى بلاد الحبشة قبل الميلاد المسيحي بقرون، و امتزجت مع سكانها الحاميين، و تصارع اللسان السامي مع لغات السكان الأصليين و انتصر عليها حتى صار لغةً لربع مساحة الحبشة و اريتريا (70). تعدُّ اللهجات الحبشية من الشعبة السامية الجنوبية التي تضم أيضاً اللغات اليمنية و اللغات العربية، و هي أقرب لليمنية منها الى العربية، و لكن طول احتكاكها مع اللهجات الحامية أكسبها صفات لغوية خاصة أبعدتها عن بقية اللغات السامية(70).

2) الرسم الحبشي

استخدم الساميون النازحون الى الحبشة الرسم السبئي، ثم اشتقُّ في القرن 3 ميلادي منه ‘الرسم الحبشي’ أو ‘الجعزي’ نسبةً الى اللهجة السامية الحبشية الجعزية مع بقاء أثر الرسم السبئي (71). يتجرّد الرسم الحبشي كالرسوم السامية من الرمز الى أصوات المد، و هو يشتمل على 26 حرفاً ترمز للأصوات الساكنة. ظهرت لاحقاً علامات ترمز لأصوات المد و تزايدت تبعاً الى أن بلغت 6 أصوات مد يُضاف لها صوت سابع يُنطق به أحياناً بعد الحرف الساكن، و زادت أهمية هذه العلامات حتى صارت عناصر أساسية في رسم الكلمات تتمثل في تغيير يلحق صورة الحروف الساكنة، أي يتغير شكل الحرف تبعاً لصوت المد الذي يلحقه، فصار بذلك لكل حرف ساكن سبعة أشكال متميزة يرمز كل منها الى نوع خاص من أنواع الحركة التي تليه(71). يكتبُ الرسم الحبشي القديم من اليمين الى الشمال مثل الرسم السبئي ثم انحرف الى أن صار يُكتبُ من الشمال الى اليمين الى هذا الوقت (72).

3) أقسام اللغات الحبشية وخصائص كل قسم وأهم آثاره

تنقسم اللهجات الحبشية السامية الى أقسام كثيرة، أهمها:  1-اللهجة الجعزية و تُنسب للشعب الجعزي، أقدم الشعوب السامية في الحبشة، و تُسمّى أحياناً ‘اللغة الحبشية القديمة’ أو ‘اللغة الحبشية’ يرجع أقدم آثارها الى سنة 350 بعد الميلاد. و أهم آثارها: [أ] نقوش يُنسب بعضها للملك عزانا سنة 350م مدوّن بالرسم السبئي و الرسم الحبشي دون أصوات مد، و بعضها للملك آل عميدا يظهر بالرسم السبئي و بالرسم الحبشي الحديث الذي فيه رموز أصوات المد، و بعضها للملك تازانا ابن الملك آل عميدا يشمل نقشاً قبل اعتناق هذا الملك المسيحية و نقشاً بعد اعتناقه في القرن 5 ميلادي(72). [ب] نقوش مدونة بهذه اللغة ترجمة للكتاب المقدس تبدو أنها في القرن 5 ميلادي(73). [ج] نقوش مدوّن فيها بعض مؤلفات دينية مترجم معظمها عن اليونانية تعود لأواخر القرن 4 و أوائل القرن 5 بعد الميلاد(73). لم تدوم الجعزية في التخاطب. اذ بدأت بالأفول مع انهيار مملكة أكسوم و قيام مملكة كوا تحت حكم الأسرة الأمهرية، فانقرضت من التخاطب و بقيت لغة كتابة و أدب و دين في الحبشة حتى العصر الحاضر(73). تقترب الجعزية من أختها العربية و اليمنية و تمتاز عنهما في مظاهر الصوت و الدلالة و المفردات و القواعد مثل عدم تمييزها بين المذكر و المؤنث في الأسماء، و تجردها من أداة التعريف، و اشتمالها على بعض المفردات الأجنبية خاصةً الحامية و اليونانية(73). 2-اللغة الأمهرية، هي لهجة القبائل الأمهرية في منطقة أمهرا، اتسع استعمالها في الحبشة في التخاطب و الكتابة بشكل كبير الى الآن بعد أن حكمت أسرة أمهرية من منطقة كوا سنة 1270م و انهارت مملكة أكسوم (73). نازعت الأمهرية اللهجة الجعزية سطان الآداب و العلوم و الدين منذ القرن 19 ميلادي الى أن صارت لغة الصحافة و المصنفات العلمية و قلّت أهمية الجعزية(74). و أقدم آثار الأمهرية بعض قصائد حربية تعود الى القرن الرابع عشر و الخامس عشر بعد الميلاد(74).3- لهجة تيجرينيا، متفرعة عن الجعزية، تُستخدم في التخاطب و نادراً في الكتابة في منطقة تيجرينيا، أهتم بها العلماء أواخر القرن التاسع عشر(74-75). 4-اللهجة التيجرية، تُستخدم في شمال منطقة تيجرينيا، تُشبه الجعزية لكنها غير متفرعة عنها حسب معظم الباحثين، لا تستخدم في الكتابة لكنها لهجة قوية في التخاطب يتكلم بها نحو 10000 نسمة؛ معظمهم من القبائل الاسلامية الذين ينحدرون عموماً من أصول حامية (75). 5- اللهجات الجوراجية، مجموعة لهجات في منطقة جوراجيا جنوب كوا الأمهرية، يتكلم بها أُناسٌ مختلفوا الأديان، أهم لهجاتها اللهجة التشاهية في منطقة تشاها، و هي لهجات متفرعة من الأمهرية لكنها لظروف خاصة ابتعدت عنها (75). 6-لهجة مدينة هرر، متفرعة من الأمهرية؛ بعدت عنها بسبب أ. تأثرها بلهجات حامية غير التي احتكت بها الأمعرية ب. اعتناق أهلها الأسلام و تأثرهم بالعربية و ما أدى بها أن صارت لهجة متميزة(75).

الباب السادس: اللغة العربية

الفصل الأول: حياة اللغة العربية

1) شعبتها ومنزلتها من اللغات السامية

“تؤلفُ اللغة العربية مع اللغات اليمنية القديمة و اللغات الحبشية السامية شعبة لغوية واحدة يطلق عليها اسم الشعبة السامية الجنوبية”(78). اذ تربط بينها صلات قرابة أكثر من صلتها بشعبة اللغات السامية الشمالية مثل الأكادية و الكنعانية والآرامية(78). و تختلف درجة قرابة لغات هذه الشعبة فيما بينها؛ اذ الصلة بين اللغات اليمنية القديمة و اللغات الحبشية السامية أقوى كثيراً من صلتهما مع اللغة العربية. و هذا بسبَب انشِعاب اللغات الحبشية السامية مباشرةً من اللغات اليمنية القديمة، و أَنّ الفضلَ في نشر اللسان السامي ببلاد الحبشة يرجع الى المهاجرين الأولين من بلاد اليمن(78). ثمّ أنّ مسافة الخلف بين الشعبة الشمالية و اللغات اليمنية و الحبشية أضيقُ كثيراً من مسافة الخلف بين هذه الشعبة و اللغة العربية(78).

2) نشأتها وأقسامها

نشأتْ اللغةُ العربيةُ في أقدم مواطن الساميين ‘الحجاز و نجد و ما اليها’ و لكن أَقدم ما وصل الينا من آثار العربية البائدة لا يتجاوز القرن 1 ق.م، و مِن العربية الباقية لا يكاد يتجاوز القرن الخامس ميلادي، و لذلك لا نعلم عن طفولتها شيئاً(78-79). يمكن تقسيم العربية في ضوءِ آثارها الى قسمين، هما: 1- العربية البائدة أو عربية النقوش: و تُطلق على لهجات عشائر عربية سكنت شمال الحجاز قرب حدود الآراميين و داخلها. حيث أدّى تطرّفها في الشمال، و احتكاكها باللغات الآرامية، و بعدِها عن مراكز العربية الأصلية الى فقْدِها كثيراً من مقوماتها و صبغَتها بالصبغة الآرامية. و قد بادَت هذه اللهجات قبل الأسلام و لم يصل منها الا بعض النقوش لذلك تسمّى عربية النقوش(79). 2- العربية الباقية: تنصَرفُ اليها كلمة ‘العربيّة’ باطلاق، و ما زالت تُستخدمُ عند الأمم العربية لغة كتابةٍ و تأليفٍ و أدبٍ. نشأت ببلاد نجد و الحجاز، و انتشرت في مناطقٍ كثيرةٍ شغلتْها من قبل أخواتها السامية و الحامية، و انشعبتْ الى لهجاتٍ عديدةٍ مستخدمةٍ هذه الأيامِ. وصلت الينا عن طريق آثار العصر الجاهلي و القرآن الكريم و الحديث و آثار العصور الاسلامية(79).

3) العربيّة البائدةُ أو عربيّة النقوش

يُطلقُ هذا الأسم على لهجات عربية؛أُستُخدِمت في الشمال على مقربة من الحدود الآرامية و داخلها خاصةً في تيماء و الحجر و العُلا؛ وصلتْ الينا عن طريق النقوش التي يظهرُ منها أنّ أهل هذه اللهجات كانوا في عزلةٍ عن عرب نجد و الحجاز حيث فقدوا كثيراً من مقوماتهم العربية، و صبغوا بالآرامية و النبطيّة(97-80). تتفق عربية هذه النقوش مع العربية الباقية في كثيرٍ من خصائص [أ] الأصوات مثل اشتمالها معظم أصوات العربية الباقية التي تتميز بها عن سائر الساميات. [ب] القواعد مثل اشتمالها على الاعراب بالحركات أي الحاق أصوات مد قصيرة بآخر الكلمة، و طريقة صوغ أفعل التفضيل و حذف علامة الاعراب. [ج] و المفردات مثل اشتمالها على أصول المفردات و أسماء الأعلام (80). و تمتاز العربية البائدة عن الباقية بشدة تأثرها باللغة الآرامية مثل استعمالها حرف الهاء او ‘هان’ كأداة تعريف كما هو شأن العبرية بينما تستعمل العربية الباقية ‘ال’ أداةً للتعريف(80). تنقسِمُ نقوش العربية البائدة الى قسمين، هما: 1- قسم شديد التأثر بالآرامية؛ دوِّنَ بخط مشتق من الخط المسند. و هذه نقوش ضحلة تتنوع في ثلاثة، هي: أ- النقوش اللحيانية، تُنسبُ الى قبائل لحيان يظهر أن أقدمها لا يتجاوز القرن الثاني أو الأول قبل الميلاد، تذكرُ ملوك لحيان و ألقابهم بخط المسند من اليمين الى الشمال (80-81). ب- النقوش الثمودية، تُنسب الى قبائل ثمود الواردة في القرآن الكريم، يرجع معظمها الى القرنين 3 و 4 بعد الميلاد، و هي بخط مشتق من المسند غير ثابت على حال في اتجاهاته(81). ج- النقوش الصفوية، وجدت في منطقة الصفا بين تلول الصفا و جبل الدروز، يرجع تاريخها الى القرون الأولى بعد الميلاد، دوّنت بخط شبيه بالخط اللحياني لكنه مختلف الجهات(81). 2- قسم أقل تأثراً بالآرامية و أدنى الى العربية الباقية في مفرداته و أسلوبه و قواعده؛ دوِّنَ بالخط النبطي أو بخطٍّ مشتقّ منه، و ينتظم هذا القسم في ثلاثة نقوش، هي: أ- نقش النمارة، وجدَ في منطقة النمارة، و هي قصر للروم قرب دمشق، يرجع تاريخه الى سنة 328 بعد الميلاد، يشير الى قبر أمرىء القيس ملك الحيرة، دوّن بالرسم النبطي المتصل الحروف(83-84). ب- نقش زبد، عثر عليه في أطلال زبد جنوب شرق حلب، يرجع تاريخه الى سنة 512 او 513 بعد الميلاد، مدوّن بثلاث لغات: العربية البائدة و السريانية و اليونانية، اختفى منها القسم العربي الا قطعة واحدة تشتمل على كلمة عربية هي ‘الاله’ و أسماء أعلام عربية كثيرة(84). ج- نقش حوران، عثر عليه بحوران جنوب دمشق فوق باب كنيسة، يرجع الى سنة 468 بعد الميلاد، مدوّن بلغتين: العربية البائدة و اليونانية(85).

4) العربية الباقية

هي لغة الأمم العربية الآن في الآداب و الكتابة، نشأت ببلاد نجد و الحجاز، و انتشرت في بلادٍ كثيرةٍ، و انشعبت منها لهجات عديدة، لا نعلم شيئاً عن طفولتها، و أقدم ما وصل منها الينا هو الأدب الجاهلي التي يرجع تاريخه الى القرن الخامس بعد الميلاد(85-86).

5) صراع لهجاتها بعضها مع بعض وتغلب لهجة قريش

انشعبت اللغة العربية الى لهجات بعد أن انتشرت في مساحات واسعة و تكلم بها طوائف مختلفة من الناس (86). اشتبكت اللهجات العربية مع بعضها في صراع لغوي كتب النصر فيه للهجة قريش التي سادت على كل اللهجات في المحادثة و استأثرت بميادين الأدب (87). و قد ساعد لهجة قريش على الأنتصار عوامل كثيرة، أهمها: 1- عامل ديني، حيث كانت قريش جيرة البيت و سدنته الذي تقدّسه معظم القبائل العربية في الجاهلية(87). 2- سلطان اقتصادي، اذ سيطر القرشيون على أغلب التجارة التي تنقلوا بها في الجزيرة العربية و اليمن و الشام، فأصبح زمام الثروة بيد قريش(87). 3- نفوذ سياسي الذي تحقّق بفضل نفوذ قريش الديني و الاقتصادي و موقع بلادها الزاخرة بحيث صارت العرب تدين لقريش(87). 4- كانت لهجة قريش أوسع اللهجات العربية ثروة و أغزرها مادة و أرقها أسلوباً و أدناها الى الكمال و أقدرها على التعبير. و هذا ما بفصل ما أُتيح لها من وسائل الثقافة و فرص الاحتكاك بمختلف اللهجات(88).  انّ جميع ظروف قوانين التغلب اللغوي قد كانت متاحةً للهجة قريش، اذ ينتهي الصراع بين لهجتين محليتين بتغلب أحداهما في حالتين، هما: أولا، أن يتمتع أهل أحدى اللهجات بنفوذ على أهل اللهجة الأخرى، فتتغلب لهجة المنطقة ذات النفوذ شريطة أن لا تقل في الحضارة و الثقافة و الآداب عن المنطقة الأخرى(88). ثانياً، أن تفوق احدى المنطقتين على الأخرى في ثقافتها و حضارتها و مقومات لغتها و آدابها، فتنتصر لهجتها و انْ لم يكن لها سلطان على المنطقة الأخرى(88). و قد توافرت كلتا الحالتين في لهجة قريش – كان لأهلها سلطان ديني و اقتصادي و سياسي، و كانت أكثر أخواتها ثروة و أغزرها مادة و أوسعها ثقافة و أقدرها على التعبير- ما أدّى بنحو طبيعيّ الى تغلبها على بقية اللهجات العربية(89). و تصبح اللهجة المحلية المنتصرة ‘لغة الآداب’ وفق قوانين علم اللغة. و هذا ما حدث للغة قريش، اذ أصبحت لغة الآداب عند جميع قبائل العرب، بها ينظمُ الشعر و تلقى الخطب و ترسل الحكم و الأمثال و تدون الرسائل و تتفاوض الوفود و يتبارى الأدباء و تجرى المناقشة في النوادي و المؤتمرات(89).

6) القرآن والأدب الجاهلي ومجيئهما بلغة قريش

لا غربة انْ يكون القرآن الكريم مفهوماً لدى جميع القبائل و قد جاء بلهجة قريش بعد أنْ غلبت بقية اللهجات و صارت لغة الآداب. و لا غرابة أن جاءت آثار العصر الجاهلي مؤلفةً بلغة قريش بل يكون من الغريب أن تأتي بلهجة غيرها(89).

7) نهضة لغة قريش وعوامل هذه النهضة

نهضَت لهجة قريش بسبب تضافر عوامل كثيرة، أهمها: 1- انتفاع لهجة قريش من احتكاكها باللهجات العربية الأخرى، اذ لابد أن يترك الصراع اللغوي في اللغة الغالبة آثاراً لغويةً كالمفردات و الأساليب من اللغات المغلوبة. و قد اقتبست قريش من اللهجات مفردات و صيغ لم تكن في حاجتها لوجود نظائرها ما سبَّب غزارةً في مفرداتها و كثرة مترادفاتها و تعدّد صيغ الكلمة الواحدة و قبولها أوزاناً كثيرةً للفعل الواحد.و صار من المتعذر الآن أن نميّز بين ما كان قرشي الأصل و ما انتقل الى لغة قريش من أخواتها(91-92). 2- كانت لغة قريش هي لغة المجتمعات الخاصة للعرب التي يعقدونها للمشاورة و فصل النزاع و التحالف و غيرها(92). 3- الأسواق، حيث يلتقي العرب في أسواقٍ للتجارة و الأدب و غيرها مثل سوق دومة الجندل، و سوق هجر بالبحرين، و سوق عمان، و سوق المشقر، و سوق صحارى، و سوق الشحر، و سوق صنعاء، و سوق عكاظ، و سوق ذي المجنة، و سوق ذي المجاز. يتداول العرب فيما بينهم في هذه الأسواق باغة قريش ما أثر في نهضتها و صقلها و تقويتها (92-93). 4- أيام العرب، و هي حروب تشنها قبائل العرب على بعضها أو على الأجانب مثل حرب البسوس و حرب داحس و الغبراء و حرب الفجار و يوم بعاث و يوم خزاري و يوم حليمة و يوم ذي قار. و كان الكلام البليغ دعامة أساسية في هذه الحروب، و كانت لغة قريش هي لغة القول بهذه الحروب ما ساهم في تجويدها(93). 5- القران الكريم و الحديث و الاسلام.

8) أثر القرآن والحديث والإسلام في اللغة العربية

1- تقوية سلطان اللغة القرشية، اذ نزل القرآن بها، و جاء الحديث بها، و هي دعامة الاسلام(93). 2- تهذيب اللغة العربية و تنقيحها و الأرتقاء بها. ففي ناحية، الأغراض، اتسعت العربية بفضل القرآن و الحديث و بفضل انتشار الاسلام و الاحتكاك بالأمم الأخرى. و أدّى ذلك الى اتساع و ارتقاء في ناحية المعاني و الأخيلة و الأساليب و الألفاظ. و تطوّرت المفردات و دلالتها، فقد تجرّدت بعضها من معانيها القديمة و أخذت معان جديدة، و ظهرت ألفاظ جديدة كثيرة. و اقتبس العرب ألفاظاً أعجميةً من لغات كثيرة، و عرّبوها بمناهج اللسان العربي. و قضى الاسلام على كثير من الألفاظ العربية الجاهلية مثل أسماء الأنصبة لرئيس الحرب في الجاهلية كالمرباع و الصفايا و النشيط و الفضول(94-96).

9) اللهجات العربية بعد تغلب لغة قريش

تغلّبت لغة قريش على اللهجات العربية و لكن “بقي لأفراد كل قبيلة في ميدان المحادثة من لهجتهم القديمة آثار ضئيلة، و نال القرشية في ألسنتهم بعض التحريف تحت تأثير لهجتهم الأولى و عادتهم المتأصلة في النطق، و هلم جرا، و من أجل ذلك اختلفت لهجات المحادثة العربية بعضها عن بعض باختلاف القبائل(97)”. وصلت مظاهر الاختلاف عن طريقين، هما: 1- قراءات القرآن، اذ يرجع كثير من مظاهر في القراءات الى اختلاف اللهجات العربية في الأصوات و أوزان الكلمات أو مآخذ الاشتقاق أو المفردات (97-98).” فالقران و ان نزل بلغة قريش ورد فيه كثير مما بقي من لهجات القبائل الأخرى في ألسنة أهلها، و قرئت بعض ألفاظه على وجوه تتفق مع هذه اللهجات”(98). 2- ما ورد في ثنايا كتب الأدب و التاريخ خاصاً بهذه اللهجات (98). لم تكن وجوه الخلاف بين اللهجات كبيرة و لكنها في مختلف المظاهر اللغوية(98). ففي الأصوات، العنعنة أي ابدال همزة ‘أن’ عيناً في لغة تميم. و ابدال الهمزة هاء في لغة طيء، و ابدال الميم باء و الباء ميماً في لغة مازن، و حذف نون من الجارة عند خثعم و زبيدة اذ وليها ساكن مثل ملبيت بدل ‘من البيت’. و الكشكشة أي ابدال الكاف شيناً في لغة أسد، ابدال الكاف شيناً مطلقاً في لغة اليمن…الخ(98-99). و في القواعد، ضم هاء ‘أيها’ اذا لم يتلها اسم اشارة في لغة بني أسد مثل أية الناس، و كسر أوائل الأفعال المضارعة في لهجة بهراء مثل يِضرب، و ابدال ياء الذين واواً في حالة الرفع فب لغة هذيل، و ابقاء ألف هذان و هاتان في حالتي النصب و الجر في لغة بني الحارث بن كعب؛ و بها قُرىء ‘ان هذان لساحران’، و تعريف الاسم و الصفة بأم بدلاً من أل في لهجة حمير، و قلب ألف المقصور ياء عند الاضافة في لغة هذيل مثل ‘سبقوا هوى’ بدلاً من ‘سبقوا هواى’، و الوقوف على المنون بالسكون في حالة النصب في لهجة ربيعة… الخ(100).و بقيت بعض المفردات عند بعض القبائل في لهجاتها الأولى مثل مفردة ‘المدية’ بمعنى السكين عند دوس من الأزد، و مفردة ‘الغبيط’ و هو مركب النساء في لغة طيء، و مفردة ‘ذو’ بمعنى الذي في لغة طيء، و مفردة ‘متى’ بمعنى من الجارة عند هذيل، و مفردة ‘وثب’ بمعنى جلس في لغة حمير…الخ (100).

10) احتكاك العربية بأخواتها السامية وغيرها وصراعها معها وآثار ذلك

احتكّت اللغة العربية قبل الاسلام و بعده باللغات السامية و غيرها، اذ توثقت العلاقات المادية و الثقافية بين العرب و الآراميين في الشمال، و تأثرت لغتاهما ببعض حيث احتوت اللغة العربية على كلمات دالة على الحياة الحضرية لم تكن في مألوفة البيئة العربية، و كلمات دالة على منتجات الصناعة و شئون التفكير الفلسفي انتقلت اليها من الآرامية مثل كلمة شيطان و سكين(101). و احتكّ العرب أكثر مع اليمنيين في الجنوب بعلاقات ثقافية و اقتصادية و دينية قوية فضلاً عن هجرة قبائل يمنية مثل معين و خزاعة و الأوس و الخزرج الى بلاد العرب، و تصارعت لغاتهما الى أن انتصرت العربية على اللغات اليمنية التي خلّفت في العربية آثاراً لغويةً كثيرةً يتعذّر الآن تمييزها (101-102). احتكت اللغة العربية بسبب الفتوح العربية بعد الاسلام بلغات كثيرة، فقد تصارعت مع الآرامية في سوريا و لبنان و العراق، و مع القبطية في مصر، و مع البربرية في شمال افريقيا، و مع الفارسية في ايران، و مع التركية ببلاد المغول، و مع القوطية باسبانيا، و تمكّنت من التغلب على الآرامية و القبطية و البربرية. لكنّها تأثرت بهذه اللغات خاصةً السريانية كثيراً و أخذت عنها أيضاً كلمات يونانية مثل انجيل و أسطوانة و ناموس…(102). لم تتغلب العربية على الفارسية أو العكس، و تأثر كل منهما ببعض و لكن أثر العربية في الفارسية أكبر. و أخذت العربية بالتركية و القوطية، و أثرت فيهما خاصةً التركية(103). و انتشرت العربية عند الأمم الاسلامية المختلفة مثل باكستان و الهند و افغانستان و تركستان و بخارى… و بلغت عندها منزلةً مقدسةً. و احتكت اللغة العربية بسبب الحروب الصليبية مع اللغات الأوربية الحديثة، فأخذت منها و تركت فيها بعض الآثار. و ازداد احتكاك العربية بهذه اللغات في العصور الحديثة بسبب انتشار الثقافة الاوربية و البعثات العلمية و الترجمة(103).

11) اللهجات العامية الحديثة، عوامل تطورها وصفاتها المشتركة

تنشعب اللغة الى لهجات حينما تنتشر في مناطق واسعة و يتكلم بها طوائف مختلفة، و تتسع مسافة الخلف بين هذه اللهجات بحيث تصبح كل منها لهجة متميزة عن أختها و لكن لابد أن يترك الأصل الأول في كل منها آثار تنطق بما بينها من صلات القرابة و لحمة النسب اللغوي.لم تفلت اللغة العربية -واليونانية قبلها- من هذا القانون؛ اذ انشعبت عن الأصل الأول الى لهجات عربية متميزة عن بعضها (104). و يرجع السبب في انشعاب هذه اللهجات عن العربية الفصحى الى عوامل كثيرة، أهمها: 1- انتشار اللغة العربية في مناطق لم تكن عربية اللسان كبلاد اليمن و العراق و الشام و شمال افريقيا ما أثر في اختلاف لهجات هذه المناطق عن بعضها و عن اللسان العربية الأول(105). 2- عوامل اجتماعية سياسية كاستقلال البلاد العربية عن بعضها و ضعف السلطان المركزي الجامع لها ما أدى الى انفصام فكري لغوي(105).3- عوامل اجتماعية نفسية تتمثل بالفروق في النظم الاجتماعية و درجة الثقافة و التفكير و الوجدان لسكان هذه المناطق(105). 4- عوامل جغرافية أي فروق في الجو و طبيعة البلاد و بيئتها و شكلها و موقعها بين سكان هذه المناطق ما أدت الى فروق و فواصل في اللغات(105-106). 5- عوامل شعبية جنسية أي فروق في الأجناس و الفصائل و الأصول لسكان هذه المناطق ما أحدث فروقاً لغوية بينهم(106). 6- اختلاف أعضاء النطق باختلاف الشعوب، حيث تختلف هذه الأعضاء في بنيتها و استعدادها تبعاً لاختلاف الشعوب و الوراثة ما يؤدي الى اختلاف الأصوات اللغوية(106). 7- التطور الطبيعي المطرد لأعضاء النطق، اذ تختلف أعضاء النطق لدينا عمّا لدى آبائنا الأولين على الأقل في استعداداتها. اذ يتبع كل تطور على أعضاء النطق او استعدادها تطور في أصوات الكلمات، فكان من المحال أن تجمد ألفاظ اللغة العربية على حالتها الأولى في الأمم الناطقة بها مثل ما حدث لأصوات الجيم و الثاء و الذال و الظاء و القاف التي صارت ثقيلة على اللسان في كثير من البلاد العربية و صار لفظها يتطلب لفظها على الوجه الصحيح تلقيناً خاصاً.(106). تحول صوت الجيم الفصيح فيه بعض التعطيش الى جيم جاف غير معطشة في مصر و جيم معطشة جداً في مناطق سوريا و المغرب. تحولت الثاء الى تاء في مناطق مصرية و غيرها، و تحولت الذال في مناطق عربية كثيرة الى دال مثل داب و دراع…الخ، و الى زاي مثل زنب و زهن و ذكي…الخ،و تحولت الظاء الى ضاء في معظم الكلمات مثل ضلام بدل ظلام و غيرها، و تحولت القاف الى همزة في بعض اللهجات المصرية و السورية و الجزائرية مثل أُلت بدل من قُلت و غيرها، أو الى جيم جافة غير معطشة في معظم اللهجات العامية في مصر مثل جط بدل من قط (107).  8- الأخطاء السمعية و سقوط الأصوات الضعيفة، قد يضعف الصوت تدريجياً بفعل بعض المؤثرات مثل وقوعه آخر الكلمة و زيادة عن بنيتها و عدم توقف المعنى المقصود عليه(108). 9- موقع الصوت في الكلمة الذي يعرضه للتطور و الأنحراف مثل: [أ] أكثر ما يكون ذلك في الاصوات الواقعة في اواخر الكلمات سواء كانت أصوات مد أم أصوات ساكنة. يُلاحظ أنّ أصوات المد في أواخر الكلمات يجعلها غالباً عرضةً للسقوط، و هذا له أثر كبير في سقوط اصوات المد القصيرة المسماة بالحركات، و نطقها مسكنة الأواخر، و يعد هذا أكبر انقلاب في اللغة العربية لأنه جرّد الكلمات من علاماتها الدالة على وظائفها في الجملة (108). وتضاءلت أصوات المد الطويلة أواخر الكلمات في عامية المصريين و غيرهم حتى كادت تنقرض، فيقال مثلاً سام، أبُ، سافرُ بدلاً من سامي، أبو، سافروا (109). و تتعرض الأصوات الساكنة أواخر الكلمات للسقوط أو التحول مثل انقراض التنوين و نون الأفعال الخمسة و الهمزة و الهاء المتطرفتين في معظم اللهجات العامية المنشعبة عن العربية مثل قول: محمدْ ولدْ مطيعْ، الأولادْ يلعبون، الهوَ شديدْ بدلاً من محمدٌ ولدٌ مطيعٌ، الأولادُ يلعبون، الهواءُ شديدٌ (109). [ب] وقوع الصوت في وسط الكلمة يعرضه لصنوفٍ عديدةٍ من التطور و الانحراف. تحولت مثلاً الهمزة الساكنة في وسط الثلاثي الى ألف لينة في عامية المصريين و غيرهم؛ يُقال: راس بدلاً من رأس. و تحولت الواو و الياء الساكنين وسط الكلمة الى صوتين من أصوات المد  مثل نطقهما في كلمة عين و يوم (110).[ج]وقوع الصوت أول الكلمة يجعله عرضه للأنحراف مثل تحول بعض المفردات العربية المفتتحة بالهمزة في بعض العاميات الى فاء أو واو؛ كقول: ودن بدل أذن، فين بدل أين(110). 10) تناوب الأصوات المتحدة النوع القريبة المخرج، و حلول بعضها محل بعض؛ فكل صوت لين عرضه بطبعه لأن ينحرف الى صوت لين آخر، و كل صوت ساكن عرضه لأن ينحرف الى صوت ساكن متحد معه في مخرجه أو قريب منه(110).و من آثار هذا القانون على انشعاب اللهجات العربية: [أ] تناوب واسع بين أصوات المد القصيرة  ما أدى الى انحراف أوزان الكلمات   انقلاب أشكالها حتى لا نكاد نجد في اللهجات كلمة واحدة باقية على وزنها العربي القديم. تُستبدل الفتحة مثلاً بالضمة أو الكسرة، كقول: يُعوم – يَعوم، خُلُص- خَلَصَ، يلطُم- يلطِم. و حدث تناسخ في أصوات المد الطويلة نفسها خاصةً الألف اللينة اذا أميلت في لغات بعض القبائل العربية(111).[ب] تناسخت كثيرٌ من الأصوات الساكنة المتحدة النوع أو القريبة المخرج في العاميات و حل بعضها محل بعص، فالسين تحولت الى صاد مثل صاخن بداً من ساخن، و تحول الصاد الى سين مثل يُسَدأ بدلاً من يُصدّق(111). 11) يتغير مدلول الكلمات تبعاً للحالات التي يكثر فيها استخدامها، فكثرة استخدام العام مثلاً في بلد ما أو عصر ما تُزيل مع تقادم العهد عموم معناه و تقصر مدلوله على حالات شاع بها، و كثرة استخدام الكلمة بمعنى مجازي يؤدي الى انقراض معناها الحقيقي و حلول المعنى المجازي (112). 12) يتغير مدلول الكلمة أحياناً تحت تأثير القواعد أي قد تذلل القواعد سبيل انحراف معنى الكلمة، فتذكير كلمة ‘ولد’ مثلاً جعل معناه يرتبط في الذهن بالمذكر(112). 13) قد يتغير مدلول الكلمة في انتقالها من السلف الى الخلف، اذ لا يفهم الجيل اللاحق جميع الكلمات على وجهها عند الجيل السابق ما يغيّر مدلولها(113). 14) تغيرت في اللهجات العامية مدلولات كثير من الكلمات لأن الشيء نفسه الذي تدل عليه قد تغيرت طبيعته أو عناصره أو وظائفه أو الشئون الاجتماعية المتصلة به، فكلمة ‘الريشة’ تطلق على آلة الكتابة أيام استخدام ريش الحمام في الكتابة، أما الآن تغيّر مدلولها الأصلي تبعاً لتغيّر مادة الة الكتابة، فصارت تُطلق على قطعة من المعدن مشكلة في صورة خاصة. و أًطلقت كلمة ‘القطار’ على عدد من الابل على نسق واحد في السفر، لكن تغيّر مدلولها لتغير وسائل النقل و صارت تُطلق على القطار المعروف(113). 15) انتقال كلمات جديدة الى بعض العاميات من اللغات الأجنبية التي احتكت بها(113). 16) انتقال أصوات جديدة الى بعض العاميات من اللغات الأجنبية التي احتكت بها مثل نُطق صوت بين الشين و الجيم المعطشة في عامية العراق في كلمة ‘عربنجي’ قد يكون تحت تأثير التركية(113). 17) دخول قواعد جديدة في بعض العاميات للحاجة اليها في الكلام أو عن طريق احتكاكها باللغات الأخرى. انتقل مثلاً الى المصرية و العراقية طريقة النسب التركية بزيادة جيم و ياء مثل عربجي، جزمجي…الخ. انتقل للعراقية طريقة النعت الفارسية؛ يقال: خوش ولد، بتقديم النعت على المنعوت (114). 18) انقراض بعض الكلمات لانقراض مدلولها أو قلة استخدامه مثل انقراض كثير من الكلمات الدالة على الملابس و الاثاث و عدد الحرب و النظم الاجتماعية (115). 19) انقرضت بعض الكلمات لثقلها على اللسان أو عدم تلاؤمها مع الحالة التي انتهت اليها أعضاء النطق، و غيرها(115). 20) انقراض الكلمة لدقة مدلولها، أو عدم الاحتياج اليه في لهجات المحادثة العادية، او قلة دورانه فيها، او وجود لفظ آخر مرادف لها؛ اذ تقتصر لهجات المحادثة عادةً على الضروري(115). رغم اختلاف ظروف اللهجات العربية، فقد تأثرت بعوامل متحدة، فاتفقت في طائفة من مظاهر التطور، و يبدو وجوه اتفاقها في أمور كثيرة، أهمها: [1] تجردها من جميع الحركات التي تلحق آخر الكلمات في العربية الفصحى، فتُنطق بجميع الكلمات مسكنة الأواخر (115).[2]”استبدل في هذه اللهجات، بالطرق الدقيقة التي تسير عليها العربية الفصحى في تركيب الجملة و ترتيب عناصرها، طرق بسيطة ساذجة و أساليب حرة طليقة”(ص، 116). [3] “لم تحتفظ هذه اللهجات الا بجزء يسير من تراث أمها العربية و ثروتها العظيمة في المفردات، و يتمثل هذا الجزء في الكلمات الضرورية للحديث العادي”(ص، 116). “و من هذه الخواص الثلاث يتبين أن أهم ما تمتاز به العربية الفصحى عن أخواتها السامية قد تجردت منه اللهجات العامية الحديثة فمسافة الخلف بين لهجاتها الحاضرة و اللغات السامية الأخرى أضيق اذن من مسافة الخلف بين هذه اللغات و العربية الفصحى”(ص 116).

12) طوائف اللهجات العامية ومبلغ بعد كل منها عن الفصحى

وصلت الينا عن اللهجات في القرن 19 معلومات ضيئلة عبر كتب القواعد و الأدب و أغاني شعبية. و لم يهتم العلماء بدرسة اللهجات الا منذ القرن 19 حيث وضعوها في خمس مجموعات، تضم كل مجموعة لهجات متقاربة في أصواتها و مفرداتها و أساليبها و قواعدها، و متفقة في المؤثرات التي خضعت لها في تطورها. و هي كالأتي: 1- مجموعة اللهجات الحجازية – النجدية، أي لهجان الحجاز و نجد و اليمن. 2- مجموعة اللهجات السورية، سوريا و لبنان و فلسطين و شرق الأردن. 3- مجموعة اللهجات العراقية. 4- مجموعة اللهجات المصرية، تضم مصر و السودان. 5- مجموعة اللهجات المغربية تضم لهجات شمال أفريقيا (116-117). تضم كل مجموعة طائفةً من اللهجات، و تنقسم كل لهجة الى فروع، و ينشعب كل فرع الى شعب عدّة؛ تختلف حسب اختلاف البلاد الناطقة بها. و رغم كثرة وجوه الخلاف بين المجموعات الخمس ألا أن أهلها يفهمون كثيراً من حديث بعضهم البعض لأنها تتفق في معظم أصول المفردات و القواعد و الأساليب(117). أدنى هذه المجموعات الى العربية الفصحى فهي: أ] اللهجات الحجازية و النجدية لأنها نشأت في المواطن الأصلية للفصحى و لأن معظم أهل الحجاز و نجد ينتمون الى عناصر عربية خالصة. ب] اللهجات المصرية لأن صراع اللسان العربي مع القبطي في مصر لم يكن عنيفاً و لم تلق العربية مقاومةً ذات بال، و اللغة التي تغْلِب دون مقاومة تخرج أقرب الى حالتها الأولى قبل الصراع، كما أنّ معظم أهل مصر منحدر من عشائر عربية الأصل(117). و أبعد مجموعات اللهجات عن الفصحى هي: أ] العراقية بسبب شدّة تأثرها بالآرامية و الفارسية و التركية و الكردية(117). ب] المغربية التي تعدّ أبعد اللهجات عن الفصحى بسبب شدّة تأثرها باللهجات البربرية ما حرفها عن أصولها (117-118). “و لهجات البدو في جميع هذه البلاد أفصح كثيراً من لهجات الحضر، و أقل منها في الكلمات الدخيلة، و أدنى الى العربية الفصحى… و لهجات القرى في جميع هذه المناطق أفصح من لهجات المدن و أقل منها في الكلمات الدخيلة، و أدنى منها الى العربية الفصحى، و يرجع السبب في ذلك الى ميل سكان القرى الى المحافظة و قلة احتكاكهم بالأجانب (انظر، 118).

13) لغة الكتابة العربية و تطورها و ما استقرت عليه في العصر الحاضر

أنّ لغة الآداب و الكتابة العربية واحدة رغم تعدّد لهجاتها، و هي تمثل في جملتها اللغة القرشية التي نزل بها القرآن، و لكن مع بعض التطورات في التفاصيل(118). و أهم عوامل تطوراتها الحاضرة هي: 1- اقتباس مفردات افرنجية بعد تعريبها. 2- ترجمة كثير من المفردات الافرنجية الدالة على معان خاصة. 3- التأثر بأساليب اللغات الافرنجية و مناهج تعبيرها و طرق استدلالها.  4- اقتباس كثير من أخيلة هذه اللغات و تشبيهاتها و حكمها و أمثالها… 5- احياء الأدباء و العلماء لبعص المفردات القديمة المهجورة للتعبير عن معانٍ لا يجدون في المفردات المستعملة ما يعبر عنها تعبيراً دقيقاً (119).

14) بين العامية والفصحى أو مشكلة اختلاف لغة الكتابة عن لغة الحديث

لغة الكتابة هي التي يُدوّن بها الأنتاج الفكري و المؤلفات و الصحف، و يؤلف بها الشعر و النثر، و تستخدم في الخطابة و التدريس. و لغةُ الحديثة هي اللغة العامية التي نستخدمها في شئوننا العادية، و يجري بها حديثنا اليومي(119). تكمنُ المشكلة أنّنا نستخدم في لغة الكتابة اللغة العربية بصورتها الفصحى و نستخدم في لغة المحادثة اللغة العامية. اذ نستخدم أداتين لغويتين مختلفتين في كثير من المظاهر اللغوية. و لا تنتقل الفصحى من السلف الى الخلف في الطفولة عن طريق التقليد مثل العامية، انما نتعلمها تعلّماً في مراحل الدراسة(120). انقسم الناس الى فريقين في تدبير مشكلة الازدواجية اللغوية. يرى الفريق الأول أن نسمو بلغة الحديث الى لغة الكتابة بحيث تستخدم الفصحى في كل الشئون، فتصير لغة طبيعية تنتقل من السلف الى الخلف عن طريق التقليد، فنوفر الوقت و الجهد في تعلم الفصحى(120). و يرى الفريق الثاني أن نهبطَ بلغة الكتابة الى لغة الحديث؛ فنستخدم العامية في جميع الشئون، فنقضي على التعدد الشاذ في أداة التفاهم و نوفر الوقت و الجهد في تعلم اللغة. انتصر للرأي الثاني الكونت كرلودي لندبرج الأسوجي في تقريره بمجمع اللغويين في ليدن 1883، و اللورد دوفرين في تقريره لوزارة خارجية انجلترا، و الألماني ولهلم سبتا الذي مهّد الى استنباط حروف افرنجية تكتب بها لهجة مصر العامية. و جنح لهذا الأتجاه بعض القدامى مثل ابن خلدون فيما كتبه في الجزء الرابع [ص 1390-1391] في مقدمته عن اللغة العامية في المجتمعات البدوية(121). يتعذّرُ تحقيق كلا الحلين. أنّ الهبوطَ بلغة الكتابة الى لغة الحديث حلّ ساذجٌ هدام؛ تتمثّلُ أضراره في الأتي: 1- أنّ اللغة العامية فقيرة في مفرداتها لا يشتمل متنها على أكثر من الكلمات الضرورية للحديث العادي، و هي مضطربة في قواعدها و أساليبها و معاني ألفاظها و تحديد وظائف الكلمات في جملها و ربط الألفاظ و الجمل ببعضها، فلا تقوى على التعبير عن المعاني الدقيقة و حقائق العلوم و الآداب و الأنتاج الفكري. اذ نضطر كثيراً لاستخدام الفصحى في التعبير عن حقائق منظمة و أفكار متسلسلة لأن مفردات العامية و قواعدها لا تسعفنا. فالأكتفاء بالعافية يقطع بنا أسباب الثقافة و ينكصنا للوارء و يقضي على نشاطنا الفكري. و يَحُولُ اصطناع العامية في الآداب و العلوم و الكتابة بين الأجيال القادمة و الانتفاع بالتراث العربي المدوّن بالفصحى. 2- يتحقّق ضرر قوميّ سياسيّ بليغ، فالفصحى أهم دعامة للقومية العربية و أقوى رابطة بين شعوب الأمة. 3- أنّ العامية في بلد ما غير ثابتة على حال واحدة، فهي عرضةٌ للتطور في جوانبها اللغويّة، فتحدث فروقٌ بين عامية الشبان و عامية الشيوخ، و هذا مع مرور الزمن يضعنا أمام الوضع اللغويّ المزدوج نفسه ما يُوصِلنا الى الفوضى. 4- تختلف العامية باختلاف الشعوب العربية،و تختلف في الشعب الواحد باختلاف مناطقه. فيصير الحل اذن باصطناع لغة حديث لكل منطقة أو قرية ما يجعل في البلاد العربية فوضى لغوية بحيث يكون فيها الآلاف اللغات(122-124). يعدّ الحلّ الثاني، أي الصعود بلهجة الحديث الى الفصحى، أمنية غالية، و لكن يتعذّر تحقيقه لسببين: أولاً، ان لغة المحادثة لا تفرض فرضاً، و لا يمكن الرجوع بها الى أدوارها القديمة لأن سنتها التطور و التبدّل. فهي تسير وفق نواميس ثابتة لا يستطيع أحد اعاقتها أو التغلب عليها. ثانياً، اذا فرضنا أنّنا نجحنا في جعل العرب جميعاً يتحدثون بالفصحى أو ما يقرب منها، فهذه اللغة المصطنعة لا تلبث بعد تداولها أن تخضع لجميع القوانين اللغوية ما يجعلها تتباين من جيلٍ لآخر، و تنقسم الى لهجات، و تتفرع منها عاميات، و تتسع الهوة بينها الى أن تنفصل عن بعضها تماماً و تنتهي الى مشكلة الأزدواج ذاتها (124-125). فما هي الطريقة المثلى اذن لحل هذه المشكلة؟ هي أن ندع الأمور تجري في مجاريها الطبيعية، فللغة قوانينها و للظواهر نواميسها، و من ضياع الوقت في غير جدوى أن نحاول تغيير محرى هذه القوانين، فلا نستطيع لذلك سبيلا (125). أن اختلاف لغة الكتابة عن لغة الحديث لا ينطوي على شيء من الشذوذ حتى نتلمس علاجاً له بل هو السنة الطبيعية في اللغات. فقد كانت اللاتينية لغة كتابة في فرنسا و اطاليا و أسبانيا و البرتغال و رومانيا. و كان يتكلّم أهل هذه المناطق لهجات منشعبة عن اللاتينية. تطورت هذه اللهجات مع مرور الوقت و عوامل أخرى حتى صارت في القرن 17م لغات مستقلة – فرنسية، ايطالية، اسبانية، برتغالية، رومانية- محل اللاتينية. انبعثت ظاهرة الازدواج القديمة مرة أخرى حيث تطورت هذه اللغات -التي كانت بالأصل لهجات لاتينية- و انشعبت منها لهحات محادثة(126). “فاختلاف لغة الكتابة عن لغة التخاطب ليس اذن أمراً شاذاً حتى نتلمس علاجاً له، بل هو السنة الطبيعية في اللغات، و لن تجد لسنة الله تبديلا” (126).

15) اللهجة المالطية

خضعت مالطة للغزاة و الفاتحين لأنها بلاد صغيرة و لم يكن لها كيان وطني مستقر أو قومية واضحة و بالتالي لم تستقر على لغة واحدة(126). انتقلت اللغة العربية متمثلة في لهجة مغربية سائدة كآخر لغة الى مالطة. و لكن انعزال هذه اللهجة عن العالم العربي و انتشارها في بلد مسيحي، و كثرة احتكاكها بالايطالية و خضوع مالطة لحكم الانجليز و كثرة القادمين الى مالطة أدى الى اتساع الخلاف بينها و بين  اللهجات العربية الأخرى. فقد تأثرت بعدة لغات اوربية خاصةً الايطالية و الفرنسية و الألمانية و الانجليزية، و انتقلت اليها مفردات كثيرة من هذه اللغات، و امتزجت العناصر الدخيلة بالعناصر الأصيلة ما ولّدَ من ذلك كلّه مخلوقاً غريباً في عالم اللغات: تتألف الكلمة الواحدة أحياناً من أصلين أحدهما عربي و الآخر أعجمي مثل كلمة ‘ليبيرانا’ أي نجنا أو خلصنا التي تتألف من أصل فرنسي بمعنى حرر أو خلص و الضمير العربي لجماعة المتكلمين(126). و قلما نجد في اللهجة المالطية جملةً خاليةً من كلمات أجنبية. و لكن لا يزال اللسان المالطي محتفظاً على كثير من خصائص اللهجات المغربية التي انشعبت عنها مثل طريقة امالة الألف المتوسطة في معظم الكلمات ككلمة ‘باب’ التي تنطق في مالطة بامالة الألف على طريقة بعض اللهجات الليبية (127). “و اللهجة المالطية هي اللهجة العامية العربية الفذة التي ارتفعت الى مصاف لغات الكتابة، و قد تم لها ذلك في القرن التاسع عشر” (انظر 127) حيث تُطبع بها الكتب و الصحف و المجلات و غيرها، “و هي كذلك اللهجة العربية الفذة التي تدوّن بحروف لاتينية” (انظر 127). و لا تكاد تستخدم الا في القرى، أما المدن المالطية فمعظم الحديث فيها يجري بالايطالية أو الانجليزية (127).

الباب السادس: اللغة العربية

الفصل الثاني: عناصر اللغة العربية

“ترجع عناصر أية لغة الى أمرين: الصوت و الدلالة، و تتكون الدلالة من: معاني المفردات؛ و قواعد التنظيم ‘النحو’؛ و قواعد البنية ‘الصرف’؛ و قواعد الأسلوب ‘البلاغة’ (انظر،128). و بذا، قُسِّم هذا الفصل الى خمس مسائل على النحو الأتي:

أولاً: ما تمتاز به اللغة العربية في عناصرها

توافر للغة العربية عاملاً عن جون اللغات السامية هما: 1- أنّها نشأت في أقدم مواطن الساميين 2- ساعد الموقع الجغرافي لهذا الموطن على استقلال اللغة و عزلتها زمناً. فاحتفظت بسببهما على أكبر قدر من مقومات اللسان السامي الأول(128). اذ تميّزت اللغة العربية عن الساميّات بخواصٍّ كثيرةٍ، أهمها:1- أنها أكثر أخواتها احتفاظاً بالأصوات السامية، اذ احتفظت بها جميعاً و زاد عليها الثاء و الذال و الغين و الضاد(128). 2- أنها أوسع أخواتها و أدقها في قواعد النحو و الصرف. اذ يوجد في العربية نظائر لجميع القواعد الموجودة في اللغات السامية و فيها قواعد أخرى لا توجد في واحدة من الساميات أو توجد بصورة بدائية (128). 3- أنها أوسع أخواتها ثروة في أصول الكلمات و المفردات، فهي تشتمل على جميع الأصول الموجودة في أخواتها أو معظمها، و تزيد عليها بأصول كثيرة احتفظت بها من اللسان السامي الأول لا يوجد نظائر لها في أي لغة سامية أخرى(129).

ثانياً: أصوات اللغة العربية مخارجها وصفاتها

للأصوات العربية خمسة عشر مخرجاً، هي: أولاً، المخارج الجوفية الحلقية، و هي أربعه: 1-الجوف مع الحلق لأحرف المد. 2- و أقصى الحلق للهمزة و الهاء. 3- و وسط الحلق للعين و الحاء. 4- و أدنى الحلق للغين و الخاء(129). ثانياً، المخارج اللسانية، و هي تسعة: 5- أقصى اللسان مع ما فوقه من الحنك للقاف و الكاف.  6- وسط اللسان مع ما يقابله من أعلى الحنك للجيم و الشين و الياء.7- جانب اللسان مع الأضراي الطواحن الثلاث للضاد.8- جانب طرف اللسان الواقع بعد مخرج الضاد الى منتهاه مع ما يقابل هذا الجانب من الحنك للام.   9- ظهر طرف اللسان مع لثة الثنيتين العليين للراء. 10- ظهر طرف اللسان مع لثة الثنيتين العليين و مع الخيشوم للنون.11- فوق طرف اللسان مع أصول الثنيتين العليين للتلء و الدال و الطاء. 12- فوق طرف اللسان مع طرف الثنيتين العليين للثاء و الذال و الظاء. 13- فوق طرف اللسان مع الثنيتين السفليين للصاد و السين و الزاي (129). ثالثاً، المخارج الشفوية، و هي أثنان: 14- باطن الشفة السفلى مع طرف الثنيتين العليين للفاء. 15- ما بين الشفتين للباء و الميم و الواو(130). “هذا، و الوسيلة السريعة لمعرفة مخرج أي صوت هي أن تأتي بهمزة قبله و تنطق به ساكنا، أو مشددا، فحيث ينقطع الصوت يكون مخرج الحرف” (انظر،130). و ترجعُ صفاتُ الأصوات العربية الى ثلاث عشر صفة هي: أولا، الجهر و الهمس، يُقصدُ بالجَهر قوة اعتماد الصوت على مكان خروجه، فيمتنع جريان النفس معه، و يُقصد بالهمس ضد ذلك، اي ضعف اعتماد الصوت على مكان خروجه فيجري معه النفس. و الأصوات المهموسة عشرة يجمعها قول: ‘فحثه شخص سكت’، و الأصوات المجهورة ما عداها و هي تسعة عشر صوتاً(130). ثانياً، الشدة و الرخاوة و التوسط بينهما. يقصد بالشدة تمام انحصار الصوت عند اسكانه، و حروف الشدة ثمانية يجمعها قول: أجدك قطبت؛ منها خمسة حروف تسمى حروف القلقة يجمعها قول: قطبجد. و يقصدُ بالرخاوة تمام جريان الصوت عند اسكانه، و هي ما عدا حروف الشدة و حروف التوسط. و يُقصد بالتوسط منزلة بين تمام الانحصار و تمام الجري، و هي ثمانية حروف يجمعها قول: لم يروعنا(130). ثالثاً، الاطباق و الانفتاح، يقصد بالاطباق انحصار الصوت بين اللسان و ما يحاذيه من الحنك نتيجة لانطباق اللسان على الحنك، و هي اربعة: الصاد و الضاد و الطاء و الظاء. و يقصدُ بالانفتاح ضد الاطباق، و حروفها ما عدا المطبقة (130). رابعاً، الاستعلاء و الانخفاض أو الاستفال. الاستعلاء هو الصعود و الارتفاع في أعلى الحنك، و هي الخاء و العين و القاف. و الانخفاض أو الاستفال ضد الاستعلاء، و هي ما عداها (130). خامساً، الذلاقة و الصمت أو الاصمات. الذلاقة هي خفة الصوت و الصمت ضده. حروف الذلاقة ستة يجمعها قول: مر بنفل، و حروف الصمت ما عداها (131). سادساً، الصفير و هو صوت يشبه صفير الطائر يحدثه الهواء الخارج من الفم عند النطق بحروف الصاد و السين و الزاي (131). سابعاً، اللين و هي صفة حروف المد الثلاث: الألف و الياء و الواو(131).

ثالثاً، مفردات اللغة العربية

1- كثرتها ومترادفاتها واختلاف الآراء في صددها

تمتاز اللغة العربية بأنّها أوسع أخواتها السامية ثروةً في أصول الكلمات و المفردات (131).”و قد تجتمع فيها من المفردات في مختلف أنواع الكلمة أسمها و فعلها و حرفها، و من المترادفات في الأسماء و الصفات و الأفعال.. مالم يجتمع مثله للغة سامية أخرى، بل ما يندر وجود مثله في لغة من لغات العالم…”(انظر،131). و تختلف العربية الفصحى في ذلك اختلافاً كثيراً عن اللهجات العامية. اذ لا تكاد تشتمل هذه اللهجات على أكثر من الكلمات الضرورية للحديث العادي ما دفع بعض الباحثين للشك في أن جامعو المعجمات خلقوا كثيراً من المفردات اختلاقاً. و فساد هذا الرأي واضحٌ؛ اذ تقتصر لهجات المحادثة في كل الأمم على الضروري و تنفر من الكمالي و الترف في المترادفات. و يدلُّنا التاريخ أنّ جامعي المعجمات كانوا على حرص شديد؛ فقد استخلصوا معظم مفردات معجماتهم من كتاب الله و أحاديث الرسول عليه الصلاة و السّلام و آثار العربية في العصر الجاهلي و عصور الأسلام الأولى و معاصريهم من العرب. فلم يأخذوا مفردات اللغة العربية الا من عرب البادية لفصاحة ألسنتهم التي دونوها عنهم مباشرة و من فورهم. و كانوا أحياناً يرحلون الى البادية يعشيون مع أهلها و يستمعون أحاديثهم و يدونون عنهم. و لم يأخذوا الا عن العصور التي كان فيها اللسان العربي سليماً لم يصبه بعد تبلبل أعجمي؛ فاقتصروا في ذلك على ‘عصور الاحتجاج’ أي عصر الجاهلية و الاسلام الى نهاية القرن 2 الهجري بالنسبة الى فصحاء الحضر و الى أواسط القرن 4 بالنسبة الى فصحاء البادية (132-133). ترجعُ أهم أسباب كثرة المفردات و المترادفات في اللغة العربية الى الأتي: 1- طول احتكاك لغة قريش باللهجات العربية الأخرى ما نقل اليها طائفةً كبيرةً من مفردات هذه اللهجات. 2- لم يأخذ جامعو المعجمات عن قريش وحدها، بل أخذوا عن قبائل أخرى كثيرة ما جعل معجماتهم تشتمل على مفردات لم تكن مستخدمة في لغة قريش و جعل لمعظمها مترادفات. 3- دوّن جامعو المعجمات لشدّة حرصِهم كلمات كثيرة كانت مهجورة في الاستعمال مستبدلاً بها مفردات أخرى. 4- كثيرٌ من الكلمات التي تذكرها المعجمات على أنها مرادفة في معانيها لكلمات أخرى غير موضوعة في الأصل لهذه المعاني، بل مستخدمة فيها استخداماً مجازياً(134). 5- أنّ الأسماء الكثيرة التي يذكرونها للشيء الواحد ليست في جميعها في الواقع أسماء، بل معظمها صفات مستخدمة استخدام الأسماء؛ نُسيت تدريجياً و غلبت عليها الأسمية(135).6- أنّ كثيراً من الألفاظ التي تبدو مترادفة هي في الواقع غير مترادفة، بل يدل كل منها على حالة خاصّة؛ اذ تدل مثلاً ‘رمَقَ، لحظَ، حدجَ، شفنَ، رنا’ على حالة خاصّة للنظر (135). 7- انتقل الى العربية من أخواتها السامية و غيرها مفردات كثيرة، كان لها نظائر في متنها الأصلي(135). و قد اندس في المعجمات – شدّةِ على حرص واضعيها- مفردات مولدة كثيرة، و بعض الكلمات المشكوك في عربيتها، و حرفت كلمات كثيرة عن أوضاعها الصحيحة؛ و يرجع ذلك ابى أسباب كثيرة، أهما: 1- ثبت لاحقاً أنّ بعض الأشعار التي أخذوا عنها أنّها موضوعة ما يبعد أن تكون مفرداتها مخترعة. 2- أخذوا أحياناً عن الكتب و الصحف، فحدث تحريف في كلمات كثيرة لأن الرسم في عصورهم كان مجرداً من الاعجام و الشكل، فكان ممكناً قراءة الكلمة الواحدة على عدةِ وجوهٍ (135).

2- العلاقة بين أصوات الكلمات العربية ومعانيها، محاكاة الأصوات.. الاشتقاق وأنواعه:

توجد روابط طبيعية و روابط وضعية بين أصوات كثير من الكلمات و ما تدل عليه، و هي كالأتي: 1- تقوم الروابط الطبيعية على محاكاة الأصوات، اذ كثير من الكلمات تدل على أصوات الأنسان و الحيوان و الأشياء أو على افعال يُحدِثها الأنسان، منها: [أ] تدلُّ بعض الكلمات على أصوات الأنسان مثل القهقهة، التمطق، الدندنة، التغمغم، الضوضاء، الصراخ، الزعقة، النحتة، التنحنح، الهمهمة، الرنين، الزفير، الشهيق، التأتأة، الفرقعة(136).[ب] تدل بعض الكلمات على أصوات الحيوان مثل رغاء الناقة و بغامها، هدير الجمل و قرقرته، صهيل الفرس و ضبحه اذا عدا و حمحمته عند الجوع الاستئناس، شحيح البغل، نهيق الحمار، خوار البقر، ثغاء الغنم، زئير الأسد، عواء الذئب، طنين الذباب، زقزقة العصفور، فحيح الحيات(136). [ج] تدل بعض الكلمات على أصوات الأشياء مثل خرير الماء، القرقرة؛ صوت الآنية اذا استخرج منها الشراب، النشيش؛ صوت غليان الشراب، الشخب؛ صوت اللبن عند حلبه، المعمعة؛ صوت النار، الأزيز؛ صوت المرجل عند الغليان، هزير الريح، هزيم الرعد، جعجعة الرحى، صرير القلم و الباب، قلقلة القفل، خفق النعل (136-137). [د] تدلّ بعض الكلمات على أفعالٍ يُحدِثُها الأنسان أو غيره مثل القطع، القطف، القطم، القضم، القط، القد، الفرى، الفرز، الكسر، الدق، القرع، الهد. يُلاحظ أن كثير من هذه الأفعال يتوقف على صوتين فقط من أصوات الفعل الثلاثة و تقتصر وظيفة الصوت الثالث على تحديد هذا المعنى العام و توجيهه وجهات خاصة، يُؤدّى مثلا المعنى العام للتفرقة بصوتي الفاء و الراء، يضاف لهما صوت ثالث يشار به الى نوع التفرقة و مادتها نحو: فرى، فرم، فرض، فرص للفضة، فرث للكرش(137). “و يرجع السبب في هذه العلاقة الى النشأة الأولى للغة الانسان. فالرأي الراجح أن اللغة الأنسانية قد نشأت من محاكاة الانسان للأصوات التي تصدر من الحيوانات و الأشياء و للأصوات التي تحدثها الأفعال عند وقوعها”(137). 2- علاقات وضعية غير مؤسسة على محاكاة الأصوات، و من أهم مظاهرها: [أ] الاشتقاق العامة يرتبط كل أصل ثلاثي في العربية بمعنى عام وضع له، فيتحقق المعنى في كل كلمة توجد فيها الأصوات الثلاثة مرتبة حسب ترتيبها في الأصل. يقوم على هذه الرابطة أكبر قسم من متن العربية و يسميها العلماء ‘الاشتقاق’ و يسميها بعض الباحثين في فقه اللغة العربية ‘الاشتقاق الأصغر'(137-138). و من أنواع هذا الاشتقاق، هما: أولاً، الاشتقاق من أسماء الأعيان مثل اشتقاق أسماء الذهب، الفضة، الجص، الزفت كلمات مثل نذهب و مفضض و مجصص و مزفت(138). [ب] الاشتقاق الكبير، ترتبط بعض مجموعات ثلاثية من الأصوات ببعض المعاني ارتباطاً مطلقاً غير مقيد بترتيب، فتدل كل مجموعة منها على المعنى المرتبط بها كيفما اختلف ترتيب أصواتها. فمن ذلك أصوات ‘ج ب ر’ تدلّ دوماً على القوة و الشدة، اذ يوجد هذا المعنى في جميع تراكيبها مثل جبر و الجبروت، جرب؛ منه رجل مجرب، بجر؛ منه الأبجر و هو القوي السرة…الخ. و تدل الأصوات ‘ق س و’ عل القوة و الاجتماع في تراكيبها الخمسة المستعملة، و هي: قسو؛ منه القسوة، قوس؛ منه القوس لشدتها و اجتماع طرفيها، وقس؛ منه الوقس و هو ابتداء الحرب.. الخ (139-141). بالغَ بعض الباحثين في هذا النوع من الاشتقاق و زعم أنه يطرد في معظم المواد لكنه في الواقع يبدو بوضوح في طائفة يسيرة من المواد حيث تقتضي تطبيقه في غيرها تكلفاً و خروجاً باللفظ عن مدلوله الأصلي(141). [ج] الاشتقاق الأكبر، ترتبط بعض مجموعات ثلاثية من الأصوات ببعض المعاني ارتباطاً غير مقيد بنفس الأصوات بل بنوعها العام و ترتيبها فحسب، فتدل كل مجموعة منها على المعنى المرتبط به متى وردت مرتبة حسب ترتيبها في الأصل (142). من أمثلة التقارب في المخرج، تناوب الميم و النون في مثل امتقع لونه و انتفع. و تناوب اللام و النون في أسود حالك و حانك، و تناوب الراء و اللام في هدر الحمام و هدل…الخ(142). و من أمثلة الاتفاق في الصفات ما عدا الاطباق، تناوب الصاد و السين في ساطع و صاطع، الصراط و السراط..الخ (142). “ويرجع السبب في كثير من ظواهر هذا التناوب الى اختلاف القبائل في النطق بأصوات الكلمة، فمادة كشط مثلا كانت تنطقها قريش بالكاف على حين أن أسدا و تميما كانتا تنطقانها بالقاف”(143). قد يختلف مدلولا الكلمتين عن بعضهما بعض الاختلاف مع بقاء المعنى العام للمادة مشتركاً فيهما مثل أز و هز، عسف و أسف، قرم و قلم…الخ. فالأز معناه الازعاج و الاقلاق، فهو مشترك مع الهز في المعنى العام للمادة، و ان كان أقوى منه في الدلالة على هذا المعنى و أعظم منه وقعاً في النفس(143).

3- النحت في اللغة العربية

“و هو أن تنتزع أصوات كلمة من كلمتين فأكثر أو من جملة للدلالة على معنى مركب من معاني الأصول التي انتزعت منها”(انظر، 144). جاء النحت في العربية بوجوه، أهمها: 1- نحت من جملة للدلالة على التحدث بهذه الجملة مثل بسمل- باسم الله، حمدل- الحمد لله…الخ(144). 2- نحت من علم مؤلف من مضاف و مضاف اليه للنسب الى هذا العلم او للدلالة على الاتصال به بسبب ما مثل عبشمي- عبد شمس، مرقسي- امرء القيس(144).3- نحت كلمة من أصلين مستقلين أو من أصول مستقلة للدلالة على معنى مركب في صورة ما من معاني هذين الأصلين أو هذه الأصول. و هذا يندر في فصيلة اللغات السامية و يشيع في اللغات الهندية- الاوربية(144). فالمفردات العربية المنتزعة من اصلين مستقلين أو من أصول مستقلة قليلة جداً، و معظمها لم يظهر فيه النحت الا عن طريق ظني يبدو فيه أحياناً من صنوف التعسف و التحايل. من ذلك اعتبار الخليل ‘لن’ منتزعة من ‘لا’ و ‘أن’ و انها تضمنت بعد تركيبهما معنى لم يكن لأصليها مجتمعين. و اعتبر الفراء ‘هلم’ منتزعة من ‘هل’؛ هل لك في كذا، و من  ‘أم’؛ بمعنى أقصد و تعال، و قيل: أنها مركبة من هاء التنبيه و لم بمعنى ضم(144-145). و رأى البعض أن كثيراً من الكلمات الرباعية و الخماسية تألفت على هذا النحو فقال مثلا: دحرج أصلها دحر فجرى؛ و هرول أصلها هرب و ولى؛ و بحثر أو بعثر أصلها بحث أو بعث و أثار(145). “و لا يخفى ما في هذا المذهب من تحايل و تعسف و تعارض مع المناهج العامة التي تسيطر عليها اللغات الانسانية بصدد الكلمات الدالة على الحدث و تصريفها بعضها من بعض” (145).

4- الاشتراك اللفظي في اللغة العربية

الاشتراك اللفظي هو أن يكون للكلمة الواحدة عدة معانٍ تطلق على كل منها على طريق الحقيقة لا المجاز مثل لفظ ‘الخال’ الذي يُطلق على أخي الأم، و على الشامة في الوجه، و على السحاب، و على البعير الضخم، و على الأكمة الصغيرة…؛ و لفظ ‘انسان’ يُطلق على الواحد من بني آدم، و على ناظر العين، و على الأنملة، و على حد السيف، و على السهم، و على الأرض التي تزرع..؛ و لفظ ‘الأرض’ يطلق على ما يقابل السماء، و على النفضة و الرعدة، و على الزكام (145-146). اختلف الباحثون في مبلغ ورود المشترك اللفظي في اللغة العربية. أنكره بعضهم انكاراً تاماً، و أولوا أمثلته كأن يجعلوا أحد معانيه حقيقةً و الأخرى مجازاً. رأى بعضهم كثرة وروده و ضربوا له عدداً كبيراً من الأمثلة(146). كلا الفريقين تنكب جادة الحق؛ فمن التعسف انكار المشترك لأن الأمثلة توكده، لكنّه لم يكثر وروده كما يرى الفريق الثاني لأن كثير من الأمثلة يمكن تأويلها على وجه آخر غير وجه المشترك(146). فمن الأمثلة، نقلت عن معناها الأصلي الى معان مجازية لعلاقة ما؛ فاعتُبرت مشتركاً و هي ليست منه مثل لفظ ‘الهلال’ الذي يطلق على هلال السماء، و هلال الصيد، و هلال النعل، و هلال الأصبع المطيف بالظفر، و الحية اذا سلخت، و الجمل الهزيل من كثرة الضرب، و باقي الماء في الحوض. اذ وضع في الأصل للدلالة على المعنى أما اطلاقه على معاني أخرى فهو من قبيل المجاز لوضوح المشابهة بينها(146). و من الأمثلة ما جاءها الاشتراك من عوارض تصريفية كأن تؤدى القواعد الصرفية الى أن تتفق لفظتان متقاربتان في صيغة واحدة، فينشأ عن ذلك تعدد في معنى هذه الصيغة يجعلها من قبيل المشترك و هي ليست منه. فلفظ ‘وجد’ يجيء ماضياً من الوجدان بمعنى العلم بالشيء او العثور عليه، و من الموجدة بمعنى الغضب، و من الوجد بمعنى الحب الشديد(147). اذا حذفنا الأمثلة التي يمكن استبعادها، فلا يبقى في باب الاشتراك اللفظي بمعناه الصحيح الا مفردات قليلة(147). نشأ الاشتراك بمعناه الصحيح في العربية من عوامل كثيرة، أهمها: 1- اختلاف اللهجات العربية القديمة، اذ جاءت بعض أمثلة المشترك من اختلاف القبائل في استعمالها التي وضعها جامعو المعجمات دون أن يرجعوا كل معنى الى القبيلة التي تستعمله(147). 2- التطور الصوتي، فقد ينال الأصوات الأصلية للفظ بعض التغيير أو الحذف أو الزيادة، فيصبح اللفظ متحداً مع لفظ آخر يختلف عن في مدلوله (148).

5- التضاد في اللغة العربية

“و هو أن يُطلق اللفظ على المعنى و ضده: كلفظ ‘الجون’ الذي يطلق على الأبيض و الأسود؛ و ‘الجلل’ المستعمل في الجليل و الهين(هذا مصاب جلل، كل مصيبة تخطأتك جلل، فهو في المثال الأول بمعنى العظيم و في الثاني بمعتى الهين)؛ و ‘أسر’ المستعمل في الاخفاء و ضده(فأسرها يوسف في نفسه و لم يبدها لهم، و أسروا الندامة لما رأوا العذاب، فهو في المثال الأول بمعنى الاخفاء و يحتمل المعنيين في المثال الثاني)… “(انظر، 148). التضاد نوع خاص من الاشتراك اللفظي اختلف العلماء حوله. رأى بعضهم مثل ابن درستويه بعدم وروده في العربية و أوّلوا أمثلته تأويلاً يخرجها من باب التضاد (148). ذهب أخرون مثل الخليل و سيبويه و السبوطي و ابن سيدة و غيرهم الى كثرة وروده، و ضربوا له عدداً كبيراً من الأمثلة(148). و كلا الفريقين قد تنكب جادة القصد في مذهبه، فمن التعسف انكار التضاد تماماً لأن بعض أمثلته لا تحتمل التأويل خارج باب التضاد (149). و لكن لم يكثُر وروده في العربية كما رأى الفريق الثاني بل كثير من أمثلته ليست من الأضداد و يمكن تأويلها على وجه آخر. “ففي بعض الأمثلة قد استعمل اللفظ في ضد ما وضع له لمجرد التفاؤل كالمفازة في المكان الذي تغلب فيه الهلكة، فقد سُميت بذلك تفاؤلاً بالسلامة، و كالسليم للملدوغ، و كالريان و الناهل للعطشان”(149). “و في بعضها قد استُعمل اللفظ في ضده لمجرد التهكم أو لاتقاء التلفظ بما يكره التلفظ به أو بما يمجه الذوق أو بما يؤلم المخاطب”(149)، و هذا مثل اطلاق لفظ العاقل على المعتوه(150). قد يأتي التضاد في الظاهر من انتقال اللفظ عن معناه الى آخر مجازي لنكتة بلاغية أو لعلاقة ما مثل قوله تعالى:{نسوا الله فنسيهم}، فالفعل غير مستعمل في معناه الأصلي لأن الله لا يجوز عليه السهو، بل مستعمل بمعنى الاهمال و الترك(150). و يأتي التضاد في الظاهر من دلالة الكلمة في أصل وضعها على معنى عام، يشترك فيه الضدان، فتصلح لكل منهما لذلك المعنى الجامع؛ فيُظن أنه تضاد مثل ‘القرء’ في اطلاقه على الحيض و الطهر لأن معناه في الأصل الوقت المعتاد، فكلاهما وقت معتاد، و اطلاق ‘الزوج’ على الذكر و الأنثى، و اطلاق ‘الصريم’ على الليل و النهار لأن معنى أصل اللفظ ما ينصرم عن شيء الذي يصدق على كلاهما(150). و يأتي التضاد في الظاهر من اختلاف مؤدى المعنى الواحد باختلاف المواقع مثل قولنا: فتحت القنطرة، نريد بها أحياناً التعبير عن فتحها لمرور السفن و أحياناً التعبير عن قفلها بعد مرورها(151). و يأتي التضاد من عوارض تصريفية كأن تؤدي القواعد التصريفية الى أن تتفق لفظتان متقارتان في صيغة صرفية واحدة، فينشأ عن ذلك لبس في معنى الصيغة المشتركة يؤدي الى عدها تضاداً مثل لفظ ‘مرتد’ الذي يقال يُرْتد للشيء و يُرتد، فأصلهما الاشتقاقي مختلف (151). اذن، يمكن حذف الكثير مما يعتبر تضادّاً و لا يبقى منها الا مفردات قليلة (151). نشأ التضاد من عوامل كثيرة، أهمها: 1- اختلاف اللهجات العربية، فلفظ ‘وثب’ المستعمل عند مضر بمعنى طفر و عند حمير بمعنى قعد. 2- التطور الصوتي، فقد ينال الأصوات الأصلية للفظ بعض التغيير أو الحذف أو الزيادة، فيصبح متحداً مع لفظ آخر يدل على ما يقابل معناه. 3- رجوع الكلمة الى أصلين، و هذا الرجوع قد يكون بسبب انشعاب الكلمة من أصلين: فتكون في دلالتها على أحد الضدين منحدرة من أصل، و في دلالتها على مقابلة منحدرة من أصل آخر مثل لفظ ‘هجد’ بمعنى نام و سهر، فمحتمل أن تكون بمعنى النوم منحدرة من هدأ اذا سكن، و في معنى السهر من جد اذا جهد(151- 152).

6- الدخيل في اللغة العربية الدخيل الأجنبي، المعرب والمولد

الدخيل الأجنبي هو ما دخل اللغة العربية من مفردات أجنبية، سواء تلك التي استعملها العرب الفصحاء أو المولدين. و يضم العرب الفصحاء هم ‘عرب البدو’ من جزيرة العرب الى أواسط القرن 4 هجري، و ‘عرب الأمصار’ الى نهاية القرن 2 هجري. و يسمّى الدخيل الأجنبي الذي استعملوه باسم ‘المعرب’. أمّا المولدون فهم ما عدا العرب الفصحاء و لو كانوا من أصول عربية، و يسمى الدخيل الأجنبي الذي استعمله باسم ‘الأعجمي المولد'(153). يرجع دخول المفردات الأجنبية للعربية الى ما أتيح للشعوب الناطقة بالعربية من قبل الاسلام و بعده من فرص الاحتكاك المادي و الثقافي و السياسي بالشعوب الأخرى. ظهرت  من هذا الاحتكاك و التطور الطبيعي للحضارة العربية مستحدثات لم يكن للعرب و للغتهم عهد بها(153). فقد خالط العرب مادياً و سياسياً و تجارياً بعض القبائل الارامية في الشمال و انتقل للعربية الكثير من مفردات الآرامية(153). و احتكّ العرب كثيراً في كل الجوانب الحياتيّة بجيرانهم اليمنيين في الجنوب، و هاجر كثيرٌ من قبائل اليمنيين مثل معين و خزاعة و الأوس و الخزرج الى بلاد العرب، فانتقلت للعربية الكثير مفرداتهم (153-154). و نشأت روابط وثيقة بين العرب و الأحباش، فانتقل الى العربية عدد غير يسير من مفردات الحبشية (154). و أدّت الفتوح العربية بعد الاسلام الى احتكاك العرب بكثيرٍ من الشعوب مثل الفرس و السريان و اليونانيين و الأتراك و الأكراد و الأقباط و البربر و القوطيين الذين أخذت العربية عن لغاتهم الكثير من المفردات خاصةً الفارسية ثم السريانية و تليها اليونانية(154). احتكّت اللغة العربية و لهجاتها أثناء الحروب الصليبية مع اللغات الأوربية، فانتقل اليها بعض مفردات هذه اللغات، و كثُرتْ فرصُ الاحتكاك في العصور الحاضرة ما أدّى الى انتقال مجموعة كبيرة من مفردات اللغات الأوربية الى اللغة العربية و لهجاتها(155). توجد نظائر عربية لكثير من الكلمات الأعجمية أو يمكن اشتقاق نظائرها، و لكن كثر دخول هذه الكلمات بسبب ترجمة العلوم اليونانية و الهندية خاصةً على أيدي مستعربة أعاجم و انقراض الفصحاء(155). و لكن هذه الظاهرة موجودة في المفردات الأعجمية التي استعملها فصحاء العرب في جاهليتهم و اسلامهم اذ جرت على ألسنتهم كلمات أعجمية كثيرة لم تدع اليها حاجة ماسة لوجود نظائرها العربية انما دعت اليها عوامل الاحتكاك اللغوي (155). و تغلّبت بعض المفردات المعربة على مرادفها العربي و حلّت مكانها مثل ألفاظ الورد و النرجس و الياسمين و المسك و التوت و الباذنجان و الكوسج و الهون و الطاجن و الابريق…الخ. و لعل اتصال هذه المفردات بما أختص به الأعاجم، أو بروزهم فيها، أو امتيازهم بكثرة انتاجها، أو ارتباطها بحضارتهم أوثق من ارتباطها بحضارة العرب، و كذلك خفّة بعضها على اللسان هي السبب في انتقال هذه المفردات الى ألسنة العرب بدلاً من نظائرها العربية(155-156). و ضعُف بعض هذه المفردات أمام مرادفها العربي فقَلَّ استعماله مثل ألفاظ البوصى و الجردقة و القيروان و السجنجل…الخ(156). اذ تخضع الكلمات المُقتَبسة للأساليب الصوتية في اللغة التي اقتبستْها و تتشكّل بها، فينالها من ذلك تحريف في أصواتها و أوزانها و طريقة نطقها ما يبعدها عن صورتها الأولى، و هذا ما حدث للكلمات التي اقتبستها العربية من اللغات الأخرى على مختلف العصور(156). يبيّنُ استقراءُ مظاهرِ التحريف في الكلمات الأعجمية المعربة على ألسنة العرب الفصحاء في عصر الاحتجاج أنّها ترجع الى نوعين، هما: [1] تحريف في الأصوات، يحدث بزيادة أصوات ساكنة أو لينة لبنية الكلمات الأعجمية، أو بحذف أصوات من بنيتها، أو استبدال أصوات – خاصةً أصوات الغير موجودة في العربية- ببعض أصوات العربية الأصليّة خاصةً القريبة في المخرج، أو جميعها معاً(156). [2] التحريف في الأوزان، و هو نتيجة التحريف في الأصوات؛ اذ انّ زيادة أصوات على الكلمة أو حذف بعض أصواتها أو تغيير بعض أصواتها اللينة يؤدّي الى انحراف وزنها عن وضعه القديم و مثال ذلك كلمات درهم و بهرج و دينار و ديباج (157). تغيّرَ مدلولُ كثير من الكلمات الدخيلة الأجنبية الى العربية، بعضها خُصَّص معناه العام و قُصِر في العربية على بعض ما كان عليه مثل كلمة ‘الجون’ الفارسية التي تعني اللون على العموم و صارت تعني بالعربية الأبيض و الأسود فقط، و بعض الكلمات الدخيلة عُمّم مدلوله الخاص فأطلق على أكثر مما كان يدل عليه، و بعضها استُعمِل في غير ما وضع له لعلاقة بين المعنيين، و بعضها انحط الى درجة وضيعة في الأستعمال فأصبح من فحش الكلام، و بعضها سما الى منزلة راقية فأصبح من نبيل القول(157). أهتم علماء اللغة بتمييز و حصر الكلمات الدخيلة و ألفوا فيها المؤلفات، و يظهر أنّ الكلمات المعربة التي استعملها فصحاء العرب لا تعدو نحو ألف كلمة(157). و وضع بعض العلماء علامات يتميّز بها كثيرٌ من الكلمات الدخيلة  كأنْ تكون الكلمة مخالفة للأوزان العربية مثل ابريسم و خراسان، أو أن تكون فاؤها نونا و عينها راءً مثل نرجس و نرد و نرجيل، أو أن تنتهي بدال فزاي مثل مهنذر، أو على الجيم و القاف مثل المنجنيق و الجوقة، أو أن تكون رباعية أو خماسية مجردة من حروف الذلاقة (158). “و من أشهر المفردات التي انتقلت من الفارسية الى العربية في عصور الاحتجاج أسماء بعض الآنية و المعادن و الأحجار الكريمة و ألوان الخبز و الطهي و الأفاوية و الرياحين و الطيب و المنتجات الزراعية و الصناعية و الشئون الحربية التي اشتهر بها الفرس… و من اشهر ما انتقل الى العربية في عصور الاحتجاج من اليونانية، عن طريق مباشر، أو عن طريق السريانية، أسماء بعض آلات الرصد و الجراحة و بعض مصطلحات الطب و الفلسفة و المنطق و العلوم الطبيعية و أسماء بعض المعتدن و الوظائف و المنشآت المعمارية و أدوات البناء و الموازين و الأمتعة… و من أشهر ما عرب في عصور الاحتجاج من السريانية و العبرية:اليم و الطور، و الربانيون و طه و ابراهيم و اسماعيل و شرحبيل و السموءل و عادياء… و من أشهر ما عرب في عصر الاحتجاج من الحبشية: المشكاة و الكفل و الهرج و المنبر و الأرائك”(انظر158). لا خلاف على جواز استعمال المعرب، فقد استعمله فصحاء العرب، و ورد كثير من الألفاظ المعربة في القرآن الكريم و السنة النبوية (159). و لكن رأى مجمع اللغة العربية بعدم جواز استعمال الكلمات الأجنبية المولدة في العصر الحاضر لأن العربية غنية عنه، و لأن في بطون معجماتها مئات الألوف من الكلمات المهجورة حسنة النغم و الجرس و كثيرة الاشتقاق تصلح أن تُوضَع للمسميات الحديثة. و عنى المجمع بتطبيق قراره و وضع عدداً كبيراً من الأسماء العربية لمسميات حديثة. و احتاط المجمع للحالة التي تدعو فيها الضرورة لاستعمال اللفظ الأعجمي في الشئون العلمية و الفنية و يتعذّر ايجاد لفظ عربي يحل محله، فأجاز في هذه الحالة استعمال اللفظ الأجنبي بعد صقله بالأساليب الصوتية العربية (159). تحدّثت مجلة المجمع اللغوي، ج1، عن أنواع من الدخيل المولد في العصر الحاضر. [1] الدخيل المنقول من أصل عربيّ، و هو ما نقله العرب أو المولدون بطريقة التجوز أو الاشتقاق من معناه الوضعي اللغوي الذي عرف به في الجاهلية و صدر الاسلام الى معنى آخر تعورف بين عامة الناس او بين خاصة منهم كالنحويين و العروضيين. و هذا نقل جارٍ على أسلوب القياس العربي، فهو عربي مبين، و هو عمدة الصناع و المؤلفين و المترجمين و واضعي العلوم[2] الدخيل المحرف عن أصل عربي، و هو ما حرّف على ألسنة المولدين من مفردات اللغة العربية تحريفاً يتعلق بالأصوات أو بالدلالة أو بهما معاً، و لا يمكن تخريجه على أصول اللغة الفصيحة، و هذا يسمى بالعامي أو الدارج أو العامي/ المولد الدارج. [3] الدخيل المخترع، و هو ما جرى على ألسنة المولدين من المفردات التي ليس لها أصل معروف في اللغة العربية و لا في اللغات الاجنبية كالخنشصة و الحلفطة و الشبرقة، و هذا ما حضَرَ المجمع استخدامه في فصيح الكلام(160).

رابعاً: قواعد التنظيم في اللغة العربية

الإعراب واختلاف الآراء في صدده

تمتاز اللغة العربية بقواعدٍ دقيقةٍ يتمثل معظمها بأصوات مد قصيرة، تلحق أواخر الكلمات لتدل على وظيفة الكلمة في العبارة و علاقتها بما عداها من عناصر في الجملة(161). “و هذا النظام لا يوجد له نظير في أية أخت من أخواتها السامية، اللهم الا بعض آثار صئيلة بدائية في العبرية و الآرامية و الحبشية” (انظر، 161). رأى بعض الباحثين أن هذه القواعد لم تكن مراعاة الا في لغة الآداب، أما لهجات الحديث فكانت منذ القديم غير معربة أو لم يكن لقواعد الأعراب فيها شأن كبير. و استدلوا على ذلك بدليلين، هما: أولاً، دليل لغوي و هو أن جميع اللهجات العامية المنشعبة عن العربية المستخدمة الآن غير معربة اسوةً بلهجات العربية القديمة. ثانياً، دليل منطقي عقلي و هو أن قواعد متشعبة دقيقة و صعبة التطبيق، تتطلب الانتباه و ملاحظة عناصر الجملة و علاقاتها؛ فلا يعقل أنها كانت مراعاة في لهجات الحديث التي عادةً تتوخى السهولة و اليسر و تلجأ لأقصر الطرق في التعبير(161). و رأى بعضهم أن هذه القواعد لم تكن مراعاة في لهجات الحديث و لا في لغة الكتابة، انما خلقها النحاة بقصْدِ تزويد اللغة العربية بنظم شبيهةٍ بنظم اللغات الاغريقية لتسمو الى مصاف اللغات الراقية. و يوجِّهون الدليل اللغوي و الدليل المنطقي السابقين لأثبات رأيهم، و يضيفون دليلاً ثالثاً خلاصته أن هذه القواعد المتشعبة الدقيقة لا يعقل أن تنشأ من تلقاء نفسها و لا يمكن لعقليات ساذجة كعقليات العرب في عصورهم الأولى أن تبدعها بل تبدو عليها طابع عقلية المدارس النحوية بالبصرة و الكوفة (161-162). لقد تبين فساد هذين الرأيين حتى لأكثرهم تحاملاً على الساميين مثل رينان الفرنسي، و أدلة فسادهما، هي: 1- عدم وجود القواعد في اللهجات المعاصرة ليس دليلاً على أنها كانت مهجورة في العربية الأولى، فقد انتاب أصوات العربية و قواعدها في اللهجات صنوف كثيرة من التغير و التحريف، فبعدت بعداً كبيراً عن أصلها(162).2- ليس غريباً أن تتفق اللهجات العامية جميعاً في التجرد من علامات الاعراب، اذ خضعت لقانون التطور الصوتي الذي يقضي ‘بضعف الأصوات الأخيرة في الكلمة و انقراضها’ الذي خضعت له كل اللغات الانسانية(162).3- بقي في اللهجات الحاضرة كثير من آثار الاعراب خاصة الاعراب بالحروف فيقال مثلاً: أبوك لا أبك، و أخوك لا أخك في عامية المصريين، و ينطق بجمع المذكر السالم مع الياء و النون، و نجد الافعال الخمسة مثبتة بالنون في لهجات عديدة(162). 4- تقر كتب التاريخ خاصةً كتب أبي الفداء أن بعض علامات الاعراب ظلت باقية في بعض لهجات المحادثة المنشعبة عن العربية حتى أواخر العصور الوسطى (162). 5- لا تدل دقة القواعد و تشعبها على أنها مخترعة. اذ تشتمل اليونانية و الاتينية قديماً و الالمانية حديثاً على قواعد دقيقة و متشعبة مثل العربية دون يؤثر هذا على انتقالها من جيل لأخر بالتقليد، و لم يَقُل أحدٌ أنها مخترعة(163). 6- يصْعُب تصوّر فكرة خلق القواعد التي لم تحدث في التاريخ، اذ قواعد اللغة ليست من الأمور التي تخترع أو تُفْرض على الناس، بل تنشأ من تلقاء نفسها و تتكَوّن بالتدريج (163). 7- لم يكن علماء العربية على علم باللغة اليونانية و قواعدها، و لم تربطهم صلةٌ بعلماء قواعد الاغريق. ثم أن قواعد العربية تختلف في طبيعتها و مناهجها اختلافاً جوهرياً عن قواعد اليونانية، فلو تمّ اخترع قواعدَ العربية على غرار قواعد اليونانية كما يزعمون، لجاءت متفقة معها أو مشابهة لها في أصولها و مناهجها(163). 8- يدلنا التاريخ أنّ علماء البصرة و الكوفة كانوا يلاحظون المحادثة العربية في أصح مظاهرها و يستنبطون قواعدهم من هذه الملاحظة متوخين في ذلك كل دقةٍ و حيطةٍ. اذ رحلوا الى الأَعْراب في باديتهم و لم يثقوا بأهل الحضر لفساد لغتهم و لا بالقبائل التي احتكت ألسنتهم بلغات أجنبية. فلا يُعقل أنّ علماء بهذه الدقة و الحيطة و الاخلاص أنْ يتواطئوا جميعاً على مثل هذا الافك المبين(163). 9- اذا افترضنا تواطئوا علماء القواعد جميعاً على اختراعها، فلا يمكن أن نتصَور أنه قد تواطأ معهم عليها جميع العلماء من معاصريهم، فأجمعوا كلمتهم دون ذكرِ أي شيء عن هذا الاختراع العجيب. و لا يُعقل ان يقبل معاصروهم هذه القواعد ممَثِّلةً للغتهم في كلامهم و كتابتهم دون أي اعتراض(163). 10- تكشف النقوش في شمال الحجاز أن الاعراب كان مستخدماً في العربية البائدة نفسها (163-164). 11- لم تتفرد العربية من بين أخواتها السامية انفراداً كاملاً بنظام الاعراب، انما توجد آثاره في الحبشية التي تعدّ دليلاً رغم محدوديتها و اختلافها عن الاعراب العربي على ان نظام الاعراب منحدر من الأصل السامي الأول و ليس من خلق النحاة(164).12- تقوم أوزان الشعر العربي و قواعده الموسيقية على ملاحظة نظام الاعراب في المفردات، فبدون الاعراب تختل الأوزان و تصطرب الموسيقا. و هذه سابقةٌ على علماء قواعد العربية(164).13- “و أقوى من هذا كله في الدلالة على فساد هذا المذهب تواتر القرآن الكريم و وصوله الينا معرب الكلمات” (انظر،164). 14- أنّ رسم المصحف العثماني – رغم تجرُّده من الاعجام و الشكل- دليل على فساد هذا المذهب، اذ يرمز المصحف الى كثير من علامات الاعراب بالحروف مثل المؤمنون و المؤمنين، و علامة اعراب المنصوب المنون مثل رسولاً و شهيدا.. الخ. و هذا المصحف سابقٌ على علماء البصرة و الكوفة (164). أنّ نظام الاعراب عنصر أساسي في العربية، فهو ليس الهام عبقري، و لا اختراع عالم، انما تكوَّن في صورة تلقائية في أحقاب طويلة(164). و كل ما عمله علماء القواعد هو استخلاص مناهجه من القرآن و الحديث و كلام فصحاء العرب، و رتبوها، و صاغوها في صورة قواعد و قوانين(164-165).  و لكن لا ننكر أن قواعد الاعراب لم يكن لها قديماً في لهجات الحديث ما كان لها من شأن في لغة الأدب. اذ لا تظهر قواعد لغوية كثيرة وظائفها و تمس الحاجة اليها الا في مسائل التفكير المنظم المسلسل، و المعاني المرتبة الدقيقة التي يندر أن تعالج في لهجات التخاطب العادي. و قد نقل المؤرخون الثقات ان ألسنة العرب كانت عرضة للزلل في القواعد منذ العصر الاسلامي و قبله، اذ طال اللحن عامتهم و خاصتهم أيضاً حتى وقع منهم اللحن في تلاوة كتاب الله(165).

خامساً: قواعد البنية في اللغة العربية

أهم مميزات اللغة العربية فيما يتعلق بقواعد البنية أو الصرف، هي: 1- جمع التكسير: تتميز العربية عن الساميات ما عدا اليمنية القديمة و الحبشية في جمع المفردات. و لكن توسعت العربية بهذا الجمع كثيراً حتى أصبح للمفرد الواحد عدة جموع(165). اعتبر بروكلمان و رينان و غيرهما هذه الخاصة مجردة من الفائدة و مسببة للاصطراب، و لكنها في الواقع لا تخلو من فائدة اذ تتوارد صيغ التكسير على اللفظ الواحد في المعنى فقط ما توسع من نطاق اللغة و تسعف المتكلم و الكاتب؛ و يرجع سبب هذه الظاهرة الى تعدد اللغات حيث انتقل الى لغة قريش صيغ جموع متعددة كانت مستخدمة في اللهجات العربية(هامش صفحة، 165). 2- يوارد على الأصل الواحد في العربية مئات المعاني دون أن يقتضي ذلك أكثر من تغييرات في حركات أصواته الأصلية مع زيادة بعض أصوات عليها أو بدون زيادة وفق قواعد مضبوطة مثل توليدنا من ‘عَلِمَ’ عشرات الكلمات(166). 3- يكثُر ورود بعض الأوزان في العربية، أو يطرد ورودها فيها، للدلالة على معان خاصة مثل أوزان أفعال الماضي و المضارع و الأمر، و أوزان اسم الفاعل و صيغ المبالغة و الصفة المشبهة و اسم المفعول و أفعال التفضيل و التعجب و اسم الآلة و المصدر و اسم الزمان و المكان و جموع التكسير (166). تُشير بعض الأوزان الى تفاصيل في المدلول و ليس فقط الى مجمل مدلول الكلمة، منها مثلاً: [1] يجيء مصدر ‘فِعَالة’ من الثلاثي للدلالة على الحرفة كالصناعة و الحياكة و التجارة. [2] يجيء مصدر ‘فَعَلان’ من الثلاثي للدلالة على التقلب و الاضطراب كالغليان و الغثيان و الخفقان(166). [3] يجيء مصدر ‘فَعَل و فُعَال’ من الثلاثي للدلالة على المرض كالوجع و السقم و السعال و الزكام. [4] يجيء مصدر ‘فُعال و فعيل’ للدلالة على الصوت كالصراخ و الدعاء و العويل و الصهيل. [5] يجيء مصدر ‘فعيل’ أحياناً للدلالة على السير كالرحيل و الذميل. [6] يجيء مصدر ‘فِعال’ للدلالة على الامتناع كالاباء و الجماح. [7] تأتي أحيانا بعض مصادر الثلاثي على وزن ‘تَفعال’ للدلالة على كثرة الحدث كالتطواف و الترداد. [8] تدل المصادر الرباعية المضعفة على معنى التكرار كالزعزعة و القلقلة. [9] تأتي ‘الفَعَلى’ في المصادر و الصفات للدلالة على معنى السرعة كالبشكي و الجمزي. [10] يدل مصدر ‘فَعْلة’ من الثلاثي على الوحدة كضرب ضربة. [11] يدل مصدر ‘فِعلة’ من الثلاثي على الهيئة كجلس جِلْسة. [12] تجيء ‘فَعَّال’ في غير المبالغة من اسم الفاعل للدلالة على الاحتراف أو ملازمة الشيء كالزجاج و البقال و الحداد (167). [13] تجيء صيغة ‘فُعال و فُعالة’ غالباً في الأسماء للدلالة على فضلات الأشياء كالفتات و البصاق. [14] تجيء صيغة ‘مَفْعَلة’ من أسماء الأعيان الثلاثية للدلالة على المكان الذي يكثر فيه الشيء كالمأسدة و المسبعة. [15] تجيء صيغة ‘فَعلان’ للدلالة على أمور تتصل بالجوع والعطش وأضدادهما كجوعان و عطشان. [16] تجيء صفة ‘أَفعَل’ للدلالة على الألوان كأحمر و أبيض. [17] تجيء صيغة ‘افْعَل’ للدلالة على الأوصاف الثابتة اللازمة للنفوس كشريف و كبير. [18] تدل صيغ جمع التكسير على وزن ‘أفَعْلُ و أفْعَال و أفْعِلة و فِعْلة’ على جمع قليل العدد كأذرع و أثواب. [19] تدل بقية صيغ جمع التكسير على جمع كثير العدد كحُمْر و عُمْد و غرف و حِجج(168).[20] تجيء صيغة ‘فَعُل و يَفْعُل’ في الدلالة على الأوصاف الثابتة كشرف و حسن و وسم(169). [21] تجيء صيغة’ أفعل’ المزيد للدلالة على معان كثيرة، أهمها: التعدية كأقمت محمداً و أقعدته و أقرأته؛ و ملكية الشيء كألبن و أتمر و أفلس؛ و الدخول في المكان و الزمان كأشأم و أعرق و أصبح و أمسى؛ و الاستحقاق كأحصد الزرع؛ و التمكن كأحفرته الأرض(169). [22] تجيء صيغة ‘فاعل’ المزيد للدلالة على المشاركة في الفعل بين اثنين فأكثر كقاتل و صارب(169). [23] تجيء صيغة ‘فعَّ’ للدلالة على معان كثيرة أهمها: التكثير في الفعل كقتل و طوف و غلق، و التعدية كعلم و فرح، و صيرورة الشيء شبيها آخر كقوس محمد و حجر الطين، و نسبة الشيء الى أصل الفعل كزكيت فلانا و عدلته و فسقته و كفرته، و اختصار حكاية الشيء كهلل وسبح و لبى، و التوجه الى الشيء كشرقت و غربت، و قبول الشيء كشفعته(169-170).[24] تجيء صيغة ‘انفعل’ للدلالة على المطاوعة كقطعته فانقطع و كسرته فانكسر(170). [25] تجيء صيغة ‘افتعل’ لعدة معانٍ أهمها: الاتخاذ كاختتم و اختدم، و الاجتهاد والطلب كاكتسب واكتتب، و التشارك كاختصم، و الاظهار كاعتظم، و المبالغة في معنى الفعل كاقتدر، و مطاوعة الثلاثي كعدلته فاعتدل(170). [26]  تجيء صيغة ‘تَفَعَّل’ للدلالة على معانٍ كثيرة أهمها: مطاوعة فعل مضعف العين كنبهته فنتبه، و الاتخاذ كتوسد ثوبه، و التكلف كتصبر، و الجنب كتحرج و تهجد، و التدرج كتجرع الماء(170).[27] تجيء صيغة ‘تفاعل’ للدلالة على معان كثيرة أهمها: التشريك بين اثنين فأكثر كتجاذباً و تخاصماً، التظاهر بالغعل كتجاهل و تغابى، و حصول الشيء بالتدريج كتزايد، و مطاوعة فاعل كباعدته فتباعد(170-171). [27] تجيء صيغة ‘استفعل’ للدلالة على معان كثيرة، أهمها: الطلب كاستغفر الله، الصيرورة الحقيقية أو المجازية كاستحجر الطين، و اعتقاد صفة الشيء كاستحسن كذا، و اختصار حكاية الشيء كاسترجع، و القوة كاستهتر و استكبر (171). [28] تجيء صيغة ‘تفعلل’ للدلالة على معان كثيرة منها مطاوعة فعلل و ما الحق به كدحرجته فتدحرج(171). [29] و أكثر ما تجيء صيغتا ‘افْعَلَّ و افْعَالَّ’ للمبالغة في الألوان و العيوب نحو احمر و احمار و اعور و اعوار(171). [30]و تسخدم صيغة ‘افعوعل’ غالباً للدلالة على المبالغة و التوكيد نحو اخشوشن الرجل(171). [31] و تجيء صيغة ‘فَعَالِ’ المبني على الكسر للدلالة على الأمر اسم فعل الأمر كحذار و منظار و حصار و شتات و تراك(171).

سادساً: قواعد الأسلوب أو البلاغة في اللغة العربية

1- المجاز والكناية والنقل واستخدام الجمل في غير أبوابها في اللغة العربية

يكثر استخدام الألفاظ و التراكيب في غير موضعها لأغراض بلاغية في اللغة العربية(172). و يبدو هذا الاستعمال في عدة مظاهر يرجع أهمها الى الأتي: [1] يُستخدم اللفظ أحياناً في غير ما وضع له لتشبيه أمر بأمر في صفةٍ ما و يسمى هذا مجازا ‘بالاستعارة’؛و هذه تكون: [أ] استعارة تصريحية ان كانت في الاسم و ذكر المشبه به مثل: يخرجهم من الظلمات الى النور. [ب] استعارة مكنية ان حُذف المشبه به و رُمز اليه بخاصة من خواصه مثل: يغمر كرمه المعوزين. [ج] استعارة تبعية ان كانت في غير الاسم مثل: يلتهم العلم التهاماً(172).و يُستخدم اللفظ في غير ما وضع له أحياناً لعلاقة أخرى غير المشابهة بين المعنيين كعلاقة السببية و المجاورة و الكلية و الجزئية؛ و يُسمّى ‘مجازاً مرسلاً’ نحو: له عليّ يد، ينزل لكم من السماء رزقا، أني أراني أعصر خمرا(172). و يستخدم التركيب في غير ما وضع له أحياناً لتشبيه حالة بحالة مثل: رمى عصفورين بحجر واحد، قاصداً التعبير عن تحقيقه غرضين بعمل واحد؛ و هذا يسمى ‘استعارة تمثيلية'(172). و قد يُسند الفعل الى غير محدثه الحقيقي لغرض بلاغي، و هذا يسمى ‘المجاز العقلي’ مثل: بنى الأمير المدينة (172).[2] تُطلق العبارة أحياناً و يراد بها ما يترتب على مدلولها و يلزمه، و يسمى هذا ‘كناية’ مثل قولنا عن الرقة في الكتابة:مس الحرير يدمي بنانه، و عن الترف: نؤوم الضحى، و عن الكرم:اليمن يتبع ظله(172). [3] قد يغلُب استعمال اللفظ في غير ما وضع له على طريق من الطرق السابقة حتى ينسلخ عن معناه الأصلي أو يكاد، و ينصرف الذهن الى معناه الجديد، و هذا يسمى ‘النقل’ في العربية و يكون بعدّة صور، أهمها:[أ] أن يغلب استعمال اللفظ في معنى على سبيل المجاز لعلاقة المشابهة أو غيرها، فيصير المعنى المجازي هو الذي ينصرف اليه الذهن مثل كلمة ‘الفصاحة’ التي تعني بالأصل صفاء اللبن ثم شاع استعمالها بمعنى صفاء القول و حسن بيانه(173).[ب] أن يغلب استعمال اللفظ الموضوع في الأصل لمعنى كلي يتناول عدة جزئيات في معنى جزئي خاص من هذه الجزئيات، حتى يصير المعنى الجزئي هو الذي يتجه اليه الذهن مثل كلمة ‘الرث’ التي تعني بالأصل الخسيس من كل شيء، ثم غلب استعمالها في الخسيس مما يُلبس و يُفرش، فصار هذا هو معناها الغالب(173).[ج] أن يغلب استعمال اللفظ الدال على معنى خاص في مدلول عام على طريق التوسع مثل لفظ ‘البأس’ الذي يعني بالأصل الحرب ثم غلب استعماله في كل شدة حتى صار هذا المعنى هو المتبادر الى الذهن(173). [د] أن ينقل اللفظ نقلاً مقصوداً من معناه الأصلي اللغوي الى معنى اصطلاحي علمي أو مدني لعلاقة ما بين المعنيين مثل ألفاظ الصلاة و الصوم، و ألفاظ نحوية كالفاعل و المفعول، و ألفاظ صرفية كالابدال و القلب(173). [4] تتحوّل الجمل كثيراً عن أبوابها الأصلية لأغراض بلاغية. تتحوّل مثلاً الجمل الأخبارية الى غير الاخبار كالالتماس أو الأمر نحو: تجيتني غدا، أو العتاب و التأنيب نحو:{عبس و تولى}، أو التحسّر أو الفخر أو المدح…الخ(173-174). و تتحوّل جمل الأمر و النهي مثلاً الى الدعاء أو التهديد أو التعجيز نحو:{لا يكلف الله نفساً الا وسعها…}، {اعملوا ما شئتم}، {ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارةٍ من علم ان كنتم صادقين}. و تتحوّل جمل الاستفهام الى الأمر نحو: {فهل أنتم منتهون} أو التهديد أو الاستبطاء أو التعجب أو التهكم أو الفخر أو المدح أو تقرير المعنى و توكيده..(174). و تتحول الجمل الدعائية للدلالة على التعجب نحو: قاتله الله ما أشعره، أو زيادة التنبيه نحو: و من يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم، أو توكيد الكلام نحو: تنكح المرأة لأربع…(174). و لهذه الأبواب دور في سمو الأساليب العربية و شدة تأثيرها في النفوس، و قوة بلاغتها، و حسن بيانها، و مرونة تعبيرها، و مطابقتها لمقتضيات الأحوال(174). و أدّى المجاز و النقل خصوصاً أثراً جليلاً في اتساع العربية و نموها و قدرتها على التعبير على المعقولات المحضة و معنويات الأمور، اذ نقلت كثير من الألفاظ العربية الدالة على المعاني الكلية و الظواهر النفسية من الأمور الحسية عن طريق المجاز الى أن شاع استعمالها بمعانيها الجديدة. و اتسعت بالمجاز و النقل اللغة العربية في العلوم و الفنون، اذ لم تقف أمام مظاهر العلم أو الحضارة وقفة المتعثر الحائر(175). اختلف العلماء حول شأن المجاز و مبلغ وروده في العربية. انكره فريق مثل الاسفرايني، و زعموا أن العرب قد وضعت الألفاظ لمختلف المعاني التي استخدمت فيها سواء ما نسميها حقيقةً أو مجازيةً. و حجتهم أن المجاز تجوز باللفظ عن وضعه الأصلي الى غيره ما يستدعي منقولاً عنه متقدماً و منقولاً اليه متأخراً، و ليس في لغة العرب تقديم و تأخير بل نطقت بالحقيقة كما نطقت بالمجاز في كل زمان و مكان(175). رأى فريق أٓخر كابن جني بأن التجوز هو الغالب في العربية، و تعسّفوا فيه حيث تكلّفوا في تأويل التراكيب الواردة عن طريق الحقيقة على صورة تجعلها من قبيل المجاز(175). في الواقع، توسّع العرب في المجاز – بالمعنى المشروح- خاصةً في الشعر و النثر الفني و الخطابة، و لكن من التعسف المبالغة في ادخال معظم التراكيب في باب المجاز (175). اختلف العلماء في قياسية المجاز و النقل، رأى بعضهم في تضييقه فلم يبح استعمال اللفظ في معنى مجازي الا اذا استعملوه العرب؛ و هذا مذهب فاسد يترتب عليه تضييق مجال القول و جمود العربية و عجزها عن التعبير(176). رأى معظم العلماء قياسية المجاز و النقل، فيبيح استعمال اللفظ في غير ما وضع له على طريق المجاز، أو نقله من معناه الأصلي الى معنى اصطلاحي ان تحقق بين المعنيين علاقة مقرّرة في علم البيان. و هذا ما سار عليه العلماء و الأدباء قديماً و حديثاً(175). و يدعم هذا المذهب عملُ جامعي المعجمات الذين حرصوا على بيان معاني الألفاظ الحقيقية و المجازية (176).

2- أساليب اللغة العربية واختلافها باختلاف الموضوعات: الخيال في العربية ومادته

تسير أساليب اللغة العربية وفق قواعدٍ، أهمها ثلاث طوائف، هي: 1- قواعد متعلقة باستخدام المفردات و التراكيب في معانيها الأصلية و الخروج بها عن هذه المعاني، و هي قواعد الأسلوب العربي في الحقيقة و التشبيه و الكناية و النقل…الخ التي شرَحَهَا علمُ البيان(178). 2- القواعد المتعلقة بمطابقة الكلام لمقتضيات الأحوال، و هي قواعد الأسلوب العربي في توكيد الكلام و اطلاقه، و الاطناب في القول و الايجاز فيه و مساواته لما يراد التعبير عنه، و طرق استخدام الجمل الاخبارية و الانشائية، و فصل الجمل و وصلها، و قصر الحكم و تخصيصه، و ذكر جميع عناصر العبارة و حذف بعضها، و تقديم بعض العناصر، و تعريفها و تنكيرها…الخ، و هذه شرحها علمُ المعاني(178). 3- القواعد المتعلقة بما تتضمنه العبارات العربية أحياناً من حسنات لفظية و معنوية لا تتصل باستخدام الألفاظ و الجمل فيما وضعت له و في غير ما وضعت له و لا تتوقف عليها مطابقة الكلام لمقتضى الحال مثل قواعد الجناس و المقابلة و التورية و الطباق و حسن التعليل و توكيد المدح بما يشبه الذم و عكسه و تجاهل العارف…الخ، و هذه شرحها علمُ البديع(178). تدلُّ هذه القواعد على سمو الأساليب العربية، و دقتها في الافادة، و مرونتها في التعبير و حرصها على جمال اللفظ و بلاغة القول(179). و تختلف أساليب العربية تبعاً لفنون القول:الشعر، النثر، الخطابة، القصة، التاريخ، القانون، تدوين العلوم…الخ؛ فكل فنٍّ طبيعته و موضوعاته و أغراضه البيانية  ما يؤدّي الى اختلاف أساليب العربية في هذه الفنون؛ اذ يسهُل معرفة الفن بمجرّد سماع عربية عربية تتصل به (179). و أهم الفنون هي ‘فنون الأدب’ حيث تمتاز في أنّ ما يتخذه غيرها وسيلةً تتخذه هي أهم مِنْ غاياتها، فالكلام وسيلة للتعبير عن الحقائق و لكن يتخذ البيان في ذاته غرضاً يوجه الى تجويده في فنون الأدب(179).”و تنقسم ‘فنون الأدب’ أقساماً كثيرةً، أهمها الشعر و ملحقاته، و النثر الفني، و الرسائل، و الخطابة، و القصة،و يختلف كل فن من هذه الفنون عن اخوته في طبيعته، و موضوعاته، و أغراضه، و مواطن استخدامه، و مقدار صلته بالوجدان و الادراك، و مبلغ نشاط المشتغلين به، و ما ناله على أيديهم من تطور و تجديد، و قد ترتب على ذلك أن كان لكل فن منها أساليبه الخاصة، و مميزاته اللغوية، و خصائصه في النظم و الوزن، و التأليف و الموسيقى، و جرس الألفاظ و تركيب الجمل، و طريقة الاستدلال، و عرض الحقائق”(انظر، 179). و يتميّز الشعر عن اخوته أنه يتوجه أولاً بالذات الى مخاطبة الوجدان و العواطف لا الادراك و التفكير، و أن غرضه الأساسي هو الايحاء بالحقائق لا شرح المسائل، و لذلك يسيطر الخيالُ على أساليبه، و يكثر في عباراته التشبيه و استخدام الكلمات و العبارات في غير ما وضعت له عن طريق المجاز و الكناية(180). “أما نظم العبارات في أوزان خاصة فليس شرطاً أساسياً في الشعر”(180). فانْ جنح الكلامُ الى الشرح و الاستدلال و التعمُّق في توضيح الحقائق، و تغلبت فيه وجهة الدلالة على وجهة الايحاء و التأثير، فلا يعدُّ شعراً على الرغم من أوزانه و قوافيه(180). اختلفت مادة الخيال -المعين الذي تقتبس منه عناصر- باختلاف البيئات و الأمم و العصور. تأثرت مادة الخيال بمقومات البيئة الطبيعية و الاجتماعية، و بنظام كل أُمّةٍ و أساليب حياتها و ما وصلت اليه من ارتقاء مادي و معنوي، و بنزعات كل عصرٍ و درجة حضارته و غيره (180).

3- تعريب الأساليب

ساهم احتكاك اللغة العربية باللغات الأجنبية في انتقال بعض الأساليب الأجنبية للعربية منذ العهد الجاهلي؛ و نجدُ شواهدَ ذلك في شعر عدي بن زيد العبادي الذي تربّى في بلاد الأكاسرة، و شعر الأعشى و غيره(180). و لكن نَشَطَ هذا التعريب في العهد الأسلامي، منذ حمل راية الكتابة عبد الحميد الكاتب، ثمّ تكاثر في العصر العباسي على يد ابن المقفع، و استمرّ الى نهضتنا الحديثة (181). انتقلت معظم الأساليب الأجنبية الى العربية قديماً حتى العهد العباسي من اللغة الفارسية، أمّا حديثاً فهي من اللغات الأوربية خاصةً الفرنسية و الانجليزية(181). يتناول هذا الموضوع في الأتي: 1- قد يقع التوارد بين العربية و غيرها في الأساليب؛ نشأت في كلا منهما دون تأثر بالاخرى، و هذا لأن منشأ الأسلوبين واحد بين اللغتين، كأن يكون طبيعياً بين البشر مثل توصيفنا و توصيف الفرنسيين للغيبة بأكل لحم الأخرين(181). 2- “تسرّب الى لغتنا في العهد الأخير بعص أساليب أعجمية كان الظاهر من حالها أنها لا يعرفها العرب، و لكن قد يدعي مدع عروبتها و رجعها الى عرق في الأساليب العربية”(182). و من ذلك، استعمالنا لفعل ‘عاد، يعود’ في التعبير غن نفي أمر ما مع الاشارة انه كان موجوداً قبل ذلك مثل قولنا: لم يعد فلان صديقاً لي.و تستعمل الفرنسية هذا الاسلوب في النفي بأداة نفي محددّة، غير أنه ليس أسلوباً افرنجياً محضاً، اذ قد ورد في فصيح الآثار العربية استعمال فعل ‘رجع’ في النفي للدلالة على المعنى الذي نحن بصدده  كقول:لا ترجعوا بعدي كفاراً(181). و من ذلك، قولنا: سافرت برغم المطر، الذي يقوله الفرنجة أيضاً، و هو ليس أسلوباً فرنجياً محضاً فقد كانت ‘رغم’ مستعملة في فصيح الكلام العربي كقولهم: فعلت كذا على الرغم من فلان او على رغم أنفه(183). 3- تسرّب الى العربية أساليب لا نزاع في عجمتها، فلا يوجد لها نظائر عربية فصيحة مثل قولنا: عاش ستة عشر ربيعاً و فلان لا يرى أبعد من أرنبة أنفه، فلان يلعب بالنار، لا جديد تحت الشمس، ازدهرت التجارة، فلان لعب دوراً، الى الملتقى، فلان يصيد في الماء العكر، معرفة سطحية، صب عليه جام غضبه…الخ(183- 184). و لكن هذه الأساليب جارية على سنن العربية في المجاز و الكناية، فلا بأس من استخدامها متى تحققت العلاقات و الشروط التي جرت عادة العرب اعتمادها في تعبيرهم المجازي و الكنائي و تلائمت مع الذوق العربي السليم. و لكن اذا وجد نظير عربي فصيح، فمن الأفضل و الأصح استعماله بدلاً من الأعجمي(184). 4- يخرج الكثير من كتّاب العصر الحاضر -الذين لم تستحكم مرَّتهم في اللغة العربية- عمّا يسير عليه الأسلوب العربي في ترتيب عناصر الجملة، و ربطها ببعض، و تنسيق أجزاء العبارة…الخ، فيأتون بعبارات مفككة ركيكة، عربية المفردات، أعجمية التركيب و النظم. و هذا التعريب ينبغي أن نقاومه جهدنا و نعمل على القضاء عليه (184).

الباب السادس: اللغة العربية

الفصل الثالث: كفاية اللغة العربية ومنزلتها

أنّ اللغة العربية من أعظم اللغات كفايةً، و أكثرها مرونةً، و أقدرها على التعبير عن مختلف فنون القول؛ و ذلك بسبب: دقة قواعدها و غزارة مفرداتها و خصب مناهجها في الاشتقاق و قياسيّة أوزانها و اختصاص كثير منها بمعانٍ معينةٍ و سعة صدرها حيال التعريب و المجاز و الكناية و النقل و شدّة حرصها على جمال الأسلوب و بلاغة العبارة و توخيها الغرض من أقرب الطرق و أكثرها ملاءمة لمقتضيات الأحوال (185). فلم تعجز العربية عن مواجهة الشئون الجديدة في مختلف العلوم و الفنون في عصر صدر الاسلام و بني أمية و خاصةً عصر بني العباس الذي انتقل فيه العرب الى الأُفق العالمي (185). “هذا و قد عرف للغة العربية هذه الكفاية النادرة و المنزلة السامية جميع الثقات من المستشرقين الأجانب أنفسهم”(185). فقد قال المستشرق الفرنسي الأستاذ لويس ماسينيون في بحْثِه “مقام الثقافة العربية بالنسبة الى المدينة العالمية” ما يلي: انّ التضاد اللغوي بين الحضارة و البادية غير مسلم به في واقع التاريخ، و بخاصة فيما يتعلق ببادية العرب و نشوء الثقافة بها، و ذلك لأن هذه البادية قد كانت دار هجرة، نزحت اليها أقوام حاملة معها ما تملك من نفائس مادية و روحية. انّ دراسة اللغة العربية و مدى قابليتها لتلقي الثقافة مفتاح لادراك تلك الثقافة، لا تأتي قوة اللغة في الأداء و البلاغة من مفرداتها أسماء كانت أم أفعالاً، و انما تأتيها من تركيب جملها، و طريقة هذا التركيب. و للغات السامية -بما فيها العربية- طابع خاص في تركيب الجمل يمكن أن يسمى بالتركيب الجواري، فترى الجمل تتابع في سلك خطي كما تتابع حبات العقد على نسق موحد. أما اللغات الآراية فتركيب الجمل فيها تركيب بنائي حيث نرى بعضها مبنياً على بعض في منطق قياسي تلعب فيه كل جملة دوراً خاصاً. و نجد في اللغات الطورانية تركيب الجمل فيها أشبه ما يكون بالوشي المؤلف من عناصر جمعتها الصدفة، و كأنها خطرات شعرية خالية من نظام الجمل السامي و من القياس اليوناني. و من حيث الكلمات، فدلالتها في اللغات السامية ترجع الى أصول ثابتة ثلاثية تلونها الحركات حسب النية الشخصية الى معنى الفعل المطلوب. و الأزمنة الفعلية فيها مطلقة بحسب الفعل المجرد، و هذا يخالف طريقة اللغات الآراية حيث الأزمنة نسبية راجعة الى الفاعل، أما اللغات الطورانية فأزمنتها وقتية بالنسبة الى الواقعة و الحادثة(186). نلاحظ بالمجمل ميل اللغات الآرية ميلاً طبيعياً الى التمييزات النظرية، و ميل اللغات الطورانية الى الايقاعات الموسيقية، و أخيراً ميل اللغات السامية الى الحكم الأخلاقية، و تركيزها في جمل موحدة. و بالنظر الى اللغات السامية، نجد اللغة العربية تفضل زميلتيها الكبيرتين العربية و السريانية. اذ دلّوا على أفضلية اللغة العربية بقولهم: انها السابقة بالوصل، و الآخرة بالنبوة. فالعربية محافظة على خصائص اللغة السامية الأصلية التي تفرعت عنها اللغات السامية المختلفة، اذ تحتفظ 28 حرفاً و 3276 أصلاً ثلاثياً مجرداً، أو 4180 أصلاً أضافةً للأصول الثنائية المزيدة، و يتعدّد فيها أشكال الفعل و غيرها من الأمور التي لا نجدها في أخواتها. و العربية الآخرة بالنبوة أي بالثقافة بوجه عام نستنتجه من ثروة المعاني الكامنة في كل أصل ثلاثي من أصولها، و من قدرتها في القبض على الامتدادات المعنوية المشتركة، و من صقلها للمعاني و الصعود بها في مدارج التقدم. و في الثقافات، فانّ السريانية خدمتها قديمة بفضل كثرة كتابها في الدولة الايرانية قبل الاسلام و كثرة مترجميها في الدول اليونانية المعاصرة، و لم تحظ باستقلال سياسي، و قيل انها لغة حساب القبر و أهاويل القيامة. و ثقافة العبرية حديثة العهد لأن أكبر مؤلفي اليهود اختاروا في القرون الوسطى اللغة العربية بينما اقتصرت العبرية على الطقوس الدينية و تقدمة الذبائح الناموسية. و نجد أخيراً أنّ اللغة العربية تفضلهما من الوجهة الثقافية لأن العربية لغة عذبة، تجري في التجارب النفسية الاجتماعية، و التجارب العلمية الرياضية. و ففي العربية جوامع الحكم و الكلم ما يثقب الضمير، و فيها الاصطلاحات العلمية التي تدل على مدى تقدم العرب (187). و في علوم اللغة، لم يصل الفكر السامي الى علم العروض الا عند العرب، و لم يصل الى فلسفة توحيد النحو و الصرف غير العرب، كما أن الأسلوب لم يصل الى أوجه الا لدى العرب. وجّه نقدان الى الثقافة العربية، هما: 1. يقلّل من قيمة الأدب العربي بأنه أصوات و ألفاظ و ايقاعات فارغة بلا معنى. و هذا ما تبيّن بطلانه من حسن الالفاظ في البلاغة العربية، و ثبوت الأصول اللغوية فيها، و تنوع الصيغ. 2. يدّعي عدم وجود عيون كبيرة في الأدب العربي كالالياذة عند اليونان. و هذا الزعم يقوم على أخذ انتاج الفكر و الروح بمقياس الكم، و يخضعُ للثقل و المادة، فيحكم بحسب عدد المجلدات و الأسطر، و مع ذلك عدد الابيات الشهيرة بما تحمله من ثروة لا يعدو في الالياذة المائة بيت، و ما تبقى ليس الا حشواً و تطويلاً و تصنعاً، و باستطاعة العرب أن يفاخروا غيرهم بما لديهم من جوامع الكلم التي تحمل سمو الفكر و أمارات الفتوة و المروءة، و اعجاز التأليف عند العرب يأتي من الايجاز كأنه تركيز بالتقطير. ثم كيف نتسى بعض مطالع قصائد المتنبي و هي كالأسهم صيغت من حكم خالصة تسمو قدراً على مجلدات من أقصوصات، و كيف ننسى حكم المتصوفين و ما وضعه العرب في مجال العلوم الرياضية و الكيماوية و الاصطلاحات الدقيقة. و رغم ذلك ما زلنا نسمع صيحات عن انحطاط الثقافة العربية و دعوة لتقليد الثقافة الغربية من الناحية المادية، مع ان تلك الثقافة تقوم على خصائص طبيعية لصيقة بلغاتها الآرية، و تقليدها في حكم المستحيل(188). ان سر الاصلاح الحقيقي بالنسبة للفرد و الجماعة على السواء هو الاخلاص، أي تحقيق فضائل اللغة العربية المتواترة، و قابليتها لنقل الأفكار المفيدة في صيغتها المتوارثة، و ذلك بدراسة الوسائل العقلية و الروحية التي استعملها العلماء بنجاح في الماضي في التعبير عن تجاربهم. ان وسيلة احياء الثقافة العربية ليست تقليد أسلوب و نمو غير طبيعيين و لا وضع أفكار غربية في قالب مستعار من الخارج، و ليس من المروءة في شيء أن يهرب المرء من نفسه، و ليس الهرب بطريق حقيقي للنجاة،و انما الطريق هو أن تلقي السمع من صميم القلب الى اللغة، و أن نركز التأمل في دراستها باعتبارها وعاء الثقافة و أداتها، و متى خلصت النية للمصلحة العامة اتضح هذا الطريق(189).

الباب السادس: اللغة العربية

الفصل الرابع: صيانة اللغة العربية

يرجع الفضل في صيانة اللغة العربية الى أربعة عوامل، هي: الرسم، ضبط القواعد و فقهها و تسجيل آدابها، وضع معجماتها، و انشاء المجامع اللغوية(190).

1- الرسم العربي

تاريخه ومراحله:

اجتاز الرسمُ العربيّ خمس مراحلٍ، هي: [1] أقدم رسم مدونة به اللغة العربية حسب آثار العربية البائدة مشتقاً من ‘خط المُسند’. و يُرجّحُ أنّ قبائل المعينيين التي نزحَتْ من اليمن الى الشمال هي مٌَنْ حمل هذا الرّسم. وصل هذا الرّسم بثلاثة أنواع متقاربة، هي: أ- الخط اللحياني الذي لا يختلف عن خط المسند، يسير مستعرضاً من اليمين الى الشمال. ب- الخط الثمودي، و هو أقل من اللحياني نظاماً و رونقاً، و اتجاهاته غير ثابتة و لكن يغلب اتجاهه من أعلى الى أسفل. ج- الخط الصفوي الذي يُشبه الخط اللحياني لكنّه مختلف الاتجاهات؛ يُقرأ تارةً من اليمين الى الشمال، و أخرى من الشمال الى اليمين. تُرسم حروف الهجاء في هذه الأنواع متفرقةً، و ترمز فقط للأصوات الساكنة في الكلمة، و ليس فيها رموز لأصوات المد القصيرة و الطويلة، و هي مجردة من الاعجام ‘النقط’ حيث ترمزُ بعض حروفها لأكثر من صوت واحد دون علامة تمييزيّة (190-191). [2] غَلَبَ الرّسم النبطي -و هو رسم آرامي- في التدوين باللغة العربية على الرسم القديم الى أنْ قضى عليه لأن الرسم النبطي مثَّلَ حضارةً آراميّةً ساميّةً راقيةً ذات نفوذٍ واسعٍ في ذاك العهد. أنّ أقدم نقش عربي دوّنَ بالنبطي هو نقش النمارة، و هو متصلُ الحروف، يرمز للأصوات الساكنة فقط، و يخلو من الاعجام(191). [3] ظهر نوع ثالث مشتقٌّ من الرسم النبطي ممثلاً للرسم العربي الحاضر في أقدم أدواره. دوِّنَ بهذا الرسم نقش زبد و نقش حوران. تُشبه صورةُ حروفه صورة الحروف التي نستخدمها الآن. يرجحُ العلماء أن هذا الرسم قد اجتاز مراحلاً كثيرةً قبل أن يستقل عن الخط النبطي و تكتمل له هذه الصورة. يقتصِر هذا الرسم في الرمز على الأصوات الساكنة، و يتجرّد من الاعجام، و يُستخدم بكثرةٍ في النقوش الأثرية(191). [4] تأثر الرسم العربيّ بالرسم السرياني، و دخلت فيه اصلاحات كبيرة منذ القرن 7 ميلادي. صار خط سريع تدوّن به المكاتبات العادية لا النقوش وحدها، و دخل فيه نظام الاعجام للرمز الى أصوات لا نظير لها في اللغات السامية الشمالية و للتمييز بين الحروف المتحدة الصورة و المختلفة النطق، لكنّه ظل متجرد من علامة للتمييز بين الحرف المُشدَّد و المُخفَّف(191-192). [5] أُدخِل في الرسم العربي نظامان، هما: أ- نظام الرمز الى أصوات المد الطويلة مستخدماً ثلاثة أحرفٍ. لقد وضِعَت هذه الحروف في الأصل للرمز الى ثلاثة أصوات وسط بين أصوات المد و الأصوات الساكنة و هي: الهمزة و الياء و الواو. ثمّ صارت تُستخدمُ مزدوجةً؛ ترمز أحياناً الى ما وُضعَت اليه نحو:أكتب، يكتب، وعد، و ترمزُ أحياناً الى أصوات مد طويلة نحو: كاتب، دليل، ملوك. ب- نظامُ الحركات، و هي علامات تشيرُ الى تشديد الحرف و الى تحرُّكِه بصوت مد قصير أو خلوه من الحركة. و قد استُخْدِمَ في ذلك طريقتان هما: تُشبه الأولى الطريقة السريانية النسطورية التي تستخدم النقط للأشارة الى الحركات، و هذه لم تدُم. و تُشبهُ الثانية الطريقة السريانية اليعقوبية التي ظهرت في القرن 8م و شاع استخدامها. ترمز هذه الطريقة بحروفٍ أو أجزاءٍ من حروف للحركات؛ يرسمُ بعضها فوق الحرف و بعضها تحته؛ تُوضَع مثلاً الفتحة ألفاً مستعرضةً فوق الحرف، و الكسرة ياءاً راجعةً تحت الحرف، و الضمة واواً فوقه، و السكون هاءاً فوقه، و الشدة هي الجزء الأول من السين أو الشين يُرسم فوق الحرف للأشارة الى صوتين متحدين أولهما ساكن. يرى العرب أنّ أبي الأسود الدؤلي المتوفي سنة 688م هو مخترع هذه الطريقة، و الثابت أنّها دخلت الرسم العربي في القرن الأول للهجرة. يبدو أنَّ كل هذه الاصلاحات لم تكتمل في العهدِ الذي رُسِم فيه المصحف العثماني، أو لم تنتشر حينئذٍ كل الانتشار، أو يكن الصحابة مِمَنْ رسموا المصحف على علمٍ تامٍ بها، أو أنهم تحرَّجوا من ادخالها في رسم القرآن: فجاءت المصاحف العثمانية مجردة من الاعجام و الشكل، و رسمت فيها حروف كثيرة بصورة مضطربة خاطئة مثل زيادة الياء في ‘بأييد’ و الألف في ‘لا أذبحنه’ و ‘لا أوضعو خلالكم’ و الواو في ‘جزاءو الظالمين’؛ و حذفت منها الألف في كثير من الكلمات مثل ‘الرحمن، السموات، يقتلونكم، للكفرين، بالظلمين، استطعوا، و هاجروا و جهدوا، منفع للناس، اليتمى، قنتين…الخ’؛ و رسم فيها بعض التاءات المربوطة مفتوحة مثل ‘نعمت الله’؛ و استبدلت فيها حروف بحروف أخرى مثل ‘والله يقبض و يبصط و اليه ترجعون’ (192-193). دخل الاعجام و الشكل في رسم المصاحف في عصرٍ متأخرٍ بعد أن كثرت الأخطاء و شعر الناس بشدّة الحاجة الى الضبط؛ و لتحرّجهم من زيادة شيء على أحرف القرآن حسب المصحف العثماني، دوّنوا الأصل بلون من المِداد، و الحركات و ما اليها بلونٍ آخرٍ. و لم يجدوا بأساً من رسم النقط التي تميز الحروف متحدة الصور بالمداد نفسه لأنها لم تكن معتبرة زائدة عن الأصل بل مجرد علامات مميزة له (193). أنّ أقدم أثر اسلامي تضمّن اصلاحات الرسم في أخر مرحلتين هو حجر كشف في مصر الذي يدل على قبر رجل يدعى عبد الرحمن خير أو جبر أو جابر أو جبير الحجري أو الحجازي، و يرجع تاريخه الى سنة 31 هجرية، قد يكون صاحبه جندي من جنود عمرو بن العاص أو عربي مسلم من المهاجرين الأولين الى مصر (193). تستخدم الأمم الناطقة بالعربية هذا الرسم العربي في العصر الحاضر ما عدا أهل مالطة يستخدمون الحروف اللاتينية(194). و قد دوّن بهذا الرسم لغات أخرى كالفارسية و التركية و السواحلية و لغة مدغشقر و زنجبار و الأردية و بعض اللغات الهندية و أيضاً اللغة الأسبانية عند بعض الطوائف (194).

عيوب الرسم العربي ووجوه إصلاحه

ترجع أهم عيوب الرسم العربي الى ثلاثة أمور، هي: أولاً، تجرُّد الكلمات غالباً من الحركات التي تشير الى أصوات المد القصيرة. و هذا مشتركٌ في معظم أنواع الرسم السامي سببه [أ] أنّ الأهمية الكبيرة للأصوات المقطعية التي تدل على معنى الكلمات و ليس لأصوات المد التي تلحق الأصوات المقطعية [ب] ثم أنّ الأصوات المقطعية تنال في اللغات السامية أكبر قسط من عناية المتكلم و السامع لذلك هي أوضح في الجرس من أصوات المد. و قد سرت أهمية الاصوات الساكنة في الدلالة و النطق الى الرسم نفسه لذلك وجّه الرسم السامي عنايته الى أظهارها كما يتضح في الأشكال القديمة من الرسم السامي(195). يترتب على هذا العيب عدّة أضرار، أهمها: [1] لا يستطيع أحدٌ قراءة نصّ عربي بشكل صحيح الا اذا كان ملماً بقواعد العربية و أوزانها و كان فاهماً من قبل معنى ما يقرؤه. [2] يكون النص العربي عرضة لأن يقرأ قراءات متعددة بعيد عن الفصحى.[3] يتعذّر في هذا الرسم قراءة أسماء الأعلام قراءةً صحيحةً الا اذا كان القارىء يحفظ ضبطها من قبل.[4] يشيعُ هذا الرسم اللحن، و يعمل على انحلال العربية الفصحى، و يحول دون تثبيت ملكتها في النفوس، و يحمل على الاستهانة بقواعدها و الالمام بضوابطها(196). ثانياً، أن للحرف الواحد حسب هذا الرسم صوراً مختلفةً: له صورة مفرداً، و أخرى متصلاً بغيره، و له صورة في أول الكلمة و أخرى وسطها و ثالثة في آخرها.و يترتب على ذلك هي الأضرار: [1] يُحدث ارتباكاً و حيرةً عند المبتدئين و يطيل زمن تعلمهم للكتابة.[2] يكلف المطابع نفقات هائلة في الحصول على عدة نماذج لكل حرف.[3] يخلق صعوبات في الطبع، و يرهق العمال القائمين على صف الحروف اذ يترددون بين أكثر من 300 صندوق محتلفة للحروف فضلاً عن صناديق الشكل و علامات الترقيم. [4] كثرة الصناديق و تعدد صور الحرف يعرّض العمال للزلل و لهذا تكثُر الأخطاء المطبعية في الكتب العربية(197). ثالثاً، تنقسم رموز هذا الرسم الى طوائف تشتمل كل منها على حروف متحدة في صورتها، لا تتميّز عن بعضها الا بالاعجام و الاهمال أو بعدد النقط. يترتب على هذا أضرار عدّة، أهمها: [1] يقتضي الكاتب بعد الفراغ من كتابة الكلمة العربية أو أثنائها وضع النقط الحروف، و في هذا اسراف في المجهود(197).[2] يزل القلم كثيراً في تدوين النقط، فيغفل بعضها، أو ينقص من عددها أو يزيده، أو ينحرف بها عن مواضعها، فتصبح الكلمة عرضةً لأن تقرأ بوجوه متعدّدة، و تضع القارىء في حيرة(197).[3] أن كثرة الحروف المنقوطة و خروج النقط عن هيكل الكلمة يُجهد القارىء و يوقعه في الارتباك. و لذلك تنص بعض الكتب و المعجمات على نوع الحروف التي يخشى فيها اللبس مثل ‘جمل’ بالجيم المعجمة التحتية، و ‘حمل’ بالهاء المهملة. يوجد هذا العيب في اللغات الاخرى كالانجليزية التي كثيراً ما يختلف فيها نطق الصوت الواحد تبعاً لاختلاف الكلمات التي يرد فيها، فيصعب قراءتها بمجرد النظر الى حروفها و يصعب كتابتها بمحرد سماعها (197-198). ترجع الاقتراحات لسدّ مواطن النقص في الرسم العربي قسمين، هما: أولاً، اصلاحات شكلية لا تمس جوهر اللغة و لا صورة الرسم الحاضر، منها: [1] ان يلتزم شكل الكلمة التي تثير اللبس عند أوساط المتعلمين اذا تركتْ من غير شكل. أما الكلمات التي يدل على شكلها السياق، أو يكفي المام بمبادىء قواعد العربية للنطق بها، أو لا يمكن أن ينطق بها في صورة أخرى، فمن العبث الالتجاء فيها الى الشكل(198). و هذا لا يقضي الا على قليل من عيوب الرسم العربي، و تظهر آثاره عند الملمين بقواعد العربية(199). [2] ان يلتزم شكل جميع الحروف في المطبوع و المكتوب، فتوضع فوق كل حرف أو تحته الحركة التي تدل على صوت المد القصير. لا يعالج هذا الاقتراح الا الناحية المتعلقة بالرمز الى أصوات المد القصيرة و يغفل ما عداها مثل الاسراف في نفقات المطابع و ارهاق الكاتب، و احتمالية الانحراف و الارتباك و الحيرة(199). [3] ادخال الشكل في بنية الكلمة حتى لا يتخطاه نظر القارىء، و ذلك باختراع حروف للرمز الى أصوات المد القصيرة -الفتحة، الضمة، الكسرة- و تدوَّن في صلب الكلمة في مواضعها كأن تُكتب كلمة ‘كَتَبَ’ على نحو ‘كاتابا’ على طريقة الرسم الاوربي(199). تعالج هذه الطريقة الناحية المتعلقة بالرمز الى أصوات المد القصير و تغفل ما عداها، كما أنها تخلق لنا رسماً يختلف كثيراً عن رسمنا الحاضر ما يقطع حاضرنا بماضينا (200). ثانياً، ادخال تغيير جوهري في اللغة نفسها أو صورة رسمها، و أهمها: [1] استبدال الحروف العربية و مناهج الرسم العربي بالحروف اللاتينية و مناهج الرسم اللاتيني التي ترمز الى أصوات المد القصيرة. و هذا ينطوي على ضرر بليغ يتمثل في الحيلولة دون انتفاع الأجيال من التراث العربي المدوّن بالرسم الحاضر. يمكن اتقاء ذلك بمحاولتين، هما: أ. ان يتعلم كل فرد نوعين من الرسم، الرسم القديم و الرسم الحديث، و لكن هذا يؤدي للارتباك و اطالة الزمن في التعلم، و انفرادنا بين الأمم بهذه الأعجوبة. ب. أن يعمد الى جميع ما كتب أو طبع بالرسم العربي و تدوينه بالرسم الحديث، و هذا ما تنوء به الجهود الانسانية و تعجز عنه الخزائن، كما يزيد من حروف الكلمة ما يزيد من المجهود و النفقات(200). [2] أن يكون لكل حرف عربي أربع صورة مختلفة: صورة في حالة تحركه بالفتح، و أخرى في حالة الكسر، و ثالثة في حالة تحركه بالضم، و رابعة في حالة تسكينه. و هذا هو منهج الرسم الحبشي. تحفظ هذه الطريقة عدد حروف الكلمة و توفر المجهود و النفقات. و لكن ضررها قطع صلة الحاضر بالماضي فينقطع الانتفاع بالتراث، و تصبح عدد حروف الهجاء أربعة أضعاف، و هذا يكلف المطابع و يرهق عمال الطباعة و يشيع الأخطاء و يربك المتعلمين(200-201). [3] الغاء الاعراب و الزام السكون أواخر الكلمات لتقريب رسم الكلمة و نطقها العاميّ. و ضرر هذا الاقتراح – كما بيّن أحمد لطفي السيد- في جانبين: أ. يحل بعض المسألة دون بعضها الآخر لأن ضبط حركات الحروف ليس ضروريا في الاعراب فقط بل هو أشد ضرورة في بنية الكلمة. ب. هو اهدار لصورة اللغة العربية و قضاء على أهم مميزاتها(201). تتلخّصُ الطريقة التي أهتدينا اليها في سد عيوب الرسم العربي في أربعة مبادىء، هي: [1] أن ترسم حروف الكلمة مفرقة منفصلاً بعضها عن بعض بحيث يكون لكل حرف صورة لا تتغير(202). [2] أن تكتب الحروف المتَّحِدة الصورة مثل ‘ب ت ث’ بصورٍ مختلفةٍ؛ يؤخَذ بعضها من صورة الحرف منفرداً و بعضها من صورته متصلاً بغيره، أو يؤخذ بعضها من صورته في خط الرقعة و بعضها من صورته في خط النسخ أو الثلث(202). [3] أن يرسم عقب كل حرف، لا فوقه أو تحته، ما يرمز الى سكونه أو حركته أو تنوينه أو تشديده، ما عدا الحرف المتحرك بالفتحة فلا يرمز الى حركته لكثرة دوران الفتحة في الكلمات العربية، فالألف اللينة تدل على فتح ما قبلها، و ياء المد تدل على الكسرة، و تدل واو المد على الضمة. و يستخدم في الرمز الى الكسرة و الضمة و السكون و التنوين و التشديد بدون تنوين أو مع التنوين العلامات نفسها التي يستخدمها الرسم الحالي (202-203). [4] ترسم علامات الترقيم وفق صورتها المتعارفة الآن ما عدا الشرطتين اللتين تحصران بينهما الجملة المعترضة فيستبدل بهما القوسان حتى لا تلتبسا بالكسرة(203). تمتاز هذه الطريقة عن جميع الطرق المقترحة بالأمور الأتية:[1] تخلّص الرسم العربي من عيوبه الثلاثة المذكورة سابقاً. [2] تعفي القلم و النظر من الصعود و الهبوط نحو حركات ترسم فوق الحروف او تحتها، و تقي القارىء من شرور الانحراف بسبب الحركات. [3] لا تقطع الصلة بين ماضينا و حاضرنا، و لا تحول بين الاجيال القادمة و الانتفاع بالتراث العربي المدوّن بالرسم القديم لأنها تستخدم الصور و الأشكال نفسها(203). يؤخَذُ على هذه الطريقة أمران، هما: 1- تطيل رسم الكلمة قليلاً بالنسبة الى رسمها القديم،و لكن هذا الضرر ليس شيئاً مذكوراً بجانب ما تحققه من جليل الفوائد للعربية و أهلها(203). 2-ترسم حروف الكلمة متفرقة، و لكنه اسلوب سليم لا غبار عليه سار عليه معظم أنواع الرسم السامي، و سار عليه الرسم العربي نفسه في أقدم صوره، و يسير عليه الآن الرسم الاوربي في الطباعة(204).

2- التأليف في قواعد اللغة العربية و آدابها و فقهها

تشمل أهم البحوث اللغوية في قواعد اللغة العربية و آدابها و فقهها الفروع الأتية: [1]النحو و الصرف: أنّ غرض ‘النحو’ هو ضبط القواعد التي يسير عليها اعراب المفردات ليسهل تعلّمها و تعليمها، و الأخذ بها في الحديث و الكتابة، و منع اللحن(204). اتسع النحو تدريجياً ليشمل أجزاء الجملة و ترتيبها، و أثر كل جزء في الأخر، و علاقة الأجزاء ببعضها، و طريقة ربطها، و أنواع الجمل، و علاقة الجمل في العبارة، و أقسام الكلمة، و أنواع كل قسم و وظيفته في الدلالة…الخ(205). و غرض ‘الصرف’ هو ضبط القواعد المتصلة اتشتقاق الكلمات العربية و تصريفها و تغير أبنيتها بتغير المعنى(205). أهتم العلماء بالنحو حتى أواخر القرن 1 الهجري ثم أخذوا يعالجون مسائل  الصرف مع النحو الى أن انفصلت عن مسائل النحو؛ فنشأت شعبتين من البحوث اللغوية هي النحو و الأخرى الصرف، رغم أن البعض ما زال يرى الصرف ممزوجاً بالنحو(205). اشتغل بهاتين الشعبتين أعلامٌ كثرٌ من القدماء و المحدثين بالبصرة و الكوفة و بغداد و مصر و غيرها في العصرين الأموي و العباسي(205-206). [2] علوم البلاغة: و هي تشمل ثلاثة بحوث أ- المعاني موضوه بيان ما ينبغي أن يكون عليه الأسلوب العربي ليطابق مقتضى الحال و ليعبر عن المراد. ب- البيان و موضوعه شرح مناهج الأسلوب العربي في استخدام التشبيه و المجاز و الكناية. ج- البديع و موضوعه دراسة المحسنات المعنوية و اللفظية التي يحتملها الأسلوب العربي(206).[3] علوم القراءات: و موضوعها بيان الوجوه التي قرئت بها آي الذكر الحكيم، و قد ظل تداولها عن طريق التلقين حتى العصر العباسي، فعكف العلماء على تدوينها و ضبط قواعدها. و ترجع أهمية هذه البحوث من الناحية اللغوية الى: أ- تقفنا على كثير من نواحي اللهجات العربية في صدر الاسلام لأن اختلاف القراءات يرجع بعض أسبابه الى اختلاف اللهجات. ب- اشتملت معظم مؤلفات القراءات على بحوث دقيقة في أصوات اللغة العربية و طبيعتها و صفاتها و أنواعها و مخارجها، و المد و أحكامه و مدته، و الغن و ضروبه، و تأثر أصوات الكلمة أو الكلمات المتجاورة ببعضها…الخ(207).[4] أدب اللغة و تاريخ الأدب و النقد الأدبي: نهضت في العصر العباسي و ما زالت محل عناية الباحثين الى الآن(208). [5] بحوث في فقه اللغة العربية و بعض مسائل في علم اللغة العام: منها دراسة الأصمعي للاشتقاق في اللغة العربية، و معظم بحوث ابن فارس ككتاب الصاحبي في فقه اللغة و سنن العرب في كلامها، و بحث نشأة اللغة العربية، و خصائص اللسان العربي، و اختلاف لغات العرب، و لغات العامة من العرب، و القياس و الاشتقاق في اللغة العربية، و آثار الاسلام في اللغة العربية و غيرها. و منها بحوث ابن جني مثل الخصائص، و أصل اللغة و هي هي الهام أم اصطلاح، و الاطراد و الشذوذ، و مقاييس العربية، و الألفاظ و المعاني في اللغة العربية..الخ. و بحوث ابن سيدة مثل المخصص، نشأة اللغة العربية..الخ،و بحوث الثعالبي مثل كتاب فقه اللغة، و بحوث ابو منصور الجواليقي، و بحوث السيوطي، و شهاب الدين الخفاجي، و احمد فارس الشدياق، و بحوث المستشرقين، و اليازجي في كتابه ‘اللغة و العصر’، و مباحث الكرملي، و مجمع اللغة العربية(208- 210).

3- متون اللغة العربية

فصِّلَ سابقاً في مفردات اللغة العربية و ما يتصل بها من مسائل، و بقي في موضوع متون اللغة العربية الكلام عن أقسامها، و طريقة ترتيبها، و مآخذها(210). تنقسم متون اللغة العربية ثلاثة أقسام، هي: [1] رسائل في طوائف خاصة من الألفاظ أو المعاني ككتاب أبي حنيفة في الأنواء و النبات، و كتب يعقوب في النبات، و كتب الأصمعي، و كتب ابن قتيبه، و كتب ابن دريد، و كتاب الفيروز أبادي في المارادف، و كتاب ابن خالويه في أسماء الأسد و أسماء الحية، و كتاب أبي هلال العسكري في الألفاظ، و كتب قطرب و الحسن بن محمد الصغاني و ابن السكيت و أبي بكر بن الأنباري…الخ (210-211). [2] معجمات جامعة ترمي الى بيان المفردات الموضوعة لمختلف المعاني، فترتب المعاني بطريقة خاصة و تذكر الألفاظ التي تقال للتعبير عن كل معنى. و أشهر هذه المعجمات خمسة هي:كتاب الألفاظ لابن السكيت، الألفاظ الكتابية للهمذاني، مبادىء اللغة للأسكافي، فقه اللغة للثعالبي، المخصص لابن سيدة(211-212). [3] معجمات جامعة ترمي الى شرح معاني المفردات، فترتب الكلمات ترتيباً خاصاً ليسهل على من يريد الوقوف على معنى كلمة الرجوع اليها في مواطنها. أوّل مَنْ عمل على تدوين معجم شامل من هذا القبيل هو الخليل بن أحمد في كتابه ‘العين’، ثم ظهر معجم ‘الجمهرة’ لابن دريد، و ألف القالي البغدادي كتابة ‘البارع’ و ألف الأزهري كتابه ‘التهذيب’ في عشر مجلدات، و اختصر أبو بكر الزبيدي كتاب العين في كتاب سمّاه ‘استدراك الغلط الواقع في كتاب العين’، و ألف الصاحب بن عباد معجم ‘المحيط’ في سبعة مجلدات و اختصر كتاب الجمهرة في كتاب سمّاه ‘الجوهرة’، و ألف الجوهري ‘تاج اللغة و صحاح العربية’ في جزئين، و ألف معجم ‘الصحاح’ و ألف في ذات الفترة ابن فارس معجم ‘المجمل’ ثم ألف ابن سيدة ‘المخصص’، و ألف الزمخشري معجمه ‘أساس البلاغة’، و ألف ابن الأثير معجم ‘النهاية’ ثم ألف الصغاني معجم ‘تكملة الصحاح’ و ‘العباب’… ألف علماء العصر الحديث معجمات حديثة مثل محيط المحيط في اللغة و اصطلاحات العلوم لبطرس البستاني، و أقرب الموارد في فصح العربية و الشوارد لسعيد الشرتوني، و المنجد للويس معلوف، و معجم الطالب في المأنوس من متن اللغة العربية و الاصطلاحات العلمية و العصرية لجرجس همام الشويري، و البستان لعبد الله البستاني(212- 220).

4- مجمع اللغة العربية

نشأ مجمع اللغة العربية، مركزه القاهرة عام 1932م. تتمثل أغراضه في [1] المحافظة على سلامة اللغة العربية. [2] وضع معجم تاريخي للغة العربية.[3] تنظيم دراسة علمية للهجات العربية. [4] بحث كل ما له شأن في تقدّم اللغة العربية(221). و قد ألف المجمع عدة لجان في دور الانعقاد الاول، هي: لجنة العلوم الطبيعية، لجنة علوم الحياة و الطب، لجنة العلوم الاجتماعية و الفلسفية، لجنة الآداب و الفنون الجميلة، لجنة المعجم، لجنة اللهجات، لجنة المجلة، لجنة خزانة المكتبة، لجنة الميزانية، لجنة الأصول العامة(222-223). و ترجع أعمال المجمع الأساسية الى سبع طوائف، هي: أولا، وضع أسماء عربية لمصطلحات العلوم و الفنون و الشئون العامة. ثانياً، وضع معجمات مهذبة للغة العربية. ثالثاً، البحث في قواعد اللغة العربية و العمل على تيسيرها. رابعاً، تنظيم دراسة علمية للهجات العربية الحديثة. خامساً، تيسير الكتابة العربية. سادساً، تشجيع الانتاج الأدبي. سابعاً، اصدار مجلة يسجل فيها ما تقره هيئة المجمع بصدد الشئون السابقة و يُنشر فيها ما يقترحه الأعضاء و غيرهم (223- 227).

قائمة المراجع العربية و الأجنبية، و فهرس الكتاب، و عرض لمؤلفات مؤلف الكتاب (228-248).

فيديو مقال فقه اللغة

 

أضف تعليقك هنا