هويتي

بقلم: غالب عوض الماحى محمد

انتماءاتنا في صغرنا وكبرنا

حين نولَد، نجد يداً تتلقفنا، وذراعاً نحمل عليها، واسماً يمنح لنا، وبيتاً يسعنا ويحتفي بنا، فنكون منتمين إلى أثداء أمهاتنا أولاً، ثم إلى أحضانهن، ثم إلى أبٍ يبدو غريباً في البداية لكننا نألفه مع الوقت، وأقارب وجيران وموريستان كبير، جميعهم يشكلون لدينا شعوراً بالانتماء إلى بيئة ومجتمع، ثم نكبر أكثر، فندرك الأفكار، وننتمي من حيث لا ندري إلى الأشياء التي نؤمن بها، وقبل ذلك ننتمي إلى خالق الأشياء وهو الله.

انتماءاتنا تصنع أفكارنا

ننشأ في مجتمع يشكل لنا كل شيء تقريباً، أسماءنا وعقيدتنا وأفكارنا، يضع أفكاره في أدمغتنا الصغيرة، ويضم أجسادنا إلى فرقةٍ ما، سنفهم فيما بعد أنها جماعة أو حزب أو رابطة أو طريقة أو جمعية أو غير ذلك. ومع الوقت سنجدنا صرنا نعبر عن ذلك الشيء الذي انتمينا إليه، وسيحسبنا الناس عليه، فنتعصب له، وتدور المعارك حول موضوعٍ لم نختره من البداية، لكننا صرنا نشعر بأنه يمثلنا، متوافقاً مع رؤيتنا للكون حولنا، ومتسقاً مع الأكوان التي في دواخلنا.

في الغربة نبدأ باكتشاف ذواتنا

وبينما يدور هذا كله في الوطن، فهناك جولات وصولات كبرى تدور خارجه، حين نشعر بالغربة، فتجردنا من كل ذلك، وتقول لنا بوضوح: “اخلع نعليك”، وتشترط علينا أن نفلت أيادينا من ماضينا بما فيه من ارتباطات، وتطلب منا: “اضمم يدك إلى جناحك”، لنبدأ آية أخرى، ورحلة نكون مجبرين فيها على اكتشاف ذواتنا من البداية، ومن أول خليةٍ فيها إلى أكبر جهاز، لتمحو من عقولنا كل ما وفره علينا أهلنا فاختاروه نيابةً عنا، إيماناً منهم بواجب التربية والرعاية، وأن مفهوم الحرية لم يكن تشكّل بعد، وأنه لا بد من أشياء يفعلونها بدلاً منا، ثم حين نكبر نقرر أن نقبل أو لا نقبل.

يأتي الشباب إلى الغربة، كأنهم انزلقوا حالاً من أرحام أمهاتهم، يرون في المطار أشخاصاً لا يشبهونهم على الإطلاق، يحدقون بآخرين سمعوا عنهم فقط في الأفلام، ينظرون في دهشةٍ إلى خليط معقد، تمر الأيام ويشاركهم في السكن والعمل والرحلة أشخاص لهم أدمغة ممتلئة بأفكار تخالفهم، عكسهم تماماً، فيجتهدوا ألا يسمعوا منهم شيئاً، ثم بعد نصف ساعةٍ سيجتهدون أن يسمعوا منهم كل شيء. ومع كلمةٍ من هنا على كلمةٍ من هناك، سيبدأ سؤالهم في التشكل: “مَن أنا؟”.

كل فرد بحاجة إلى الانتماء

سيسأل الله في المسجد “مَن أنا؟”، وستقوده قدماه إلى الشوارع الخلفية والغرف الحمراء، ليكرر السؤال، وسيجلس على البحر يراقب الموج ويسأله، وسيزهد في كل ذلك ويذهب إلى الزحام ويسأل العابرين، سيجرب أن يصاحب أخياراً، أن يراقب أشراراً، أن يسير وحده، أن يصير بالكامل وحده، ويظل السؤال ملحّاً عليه دون إجابة كاملة.

في هرم الاحتياجات الأساسية للإنسان، بعد حاجته إلى المأكل والمشرب والمسكن مباشرةً، يأتي احتياجه إلى الانتماء، لأن الإنسان بالأصل كائن اجتماعي، كائن لا يستطيع أن يعزف منفرداً إلى آخر عمره، ولا يجيد الطيران خارج السرب دائماً، هو في حاجةٍ أن يكون مع سربٍ ما، حتى ولو ظل داخل السرب يطير في عكس الاتجاه.

عندما يكون الفرد مع نفسه 

تبدو الفرصة هي تلك الحالة الفريدة التي تجعل الإنسان مواجهاً نفسَه بلا إطارٍ يحكمه، بلا لحيةٍ تدل على انتمائه، بلا قصة شعرٍ تعرّف ذوقه، بلا طريقة كلامٍ تضعه في فئة المنظّرين أو المصفقين، بلا رابطة، الشخص يكون هو، مفرداً ومجرداً، ولا يعرف أيكون يسارياً متحرراً؟ أيكون يمينياً محافظاً؟ أيكون علمانياً يضع الدين في مؤخرة حياته؟ أيكون إسلامياً يضع الدين أولاً في كل شيء؟ أيكون مدافعاً عن الإنسان عموماً؟ أيكتفي بالدفاع عن نفسه؟ أيكون مهتماً بحقوق المرأة؟ أيكون ذكورياً؟ أيكون إنساناً عادياً بين هذا وذاك؟ أيكون متقبلاً للقاعدةِ وما شذَ عنها معاً؟ أيكون متمسكاً بالأصل وحده محارباً ما عداه؟ وإلى آخره من الأسئلة التي لن تنتهي.

النفس وما تمر به من تغييرات 

فنجد الشاب من هؤلاء، مضغةً صغيرة، تتشكل حسبما تسوقها الأجوبة، فأرى فلاناً بلحيته الخفيفة وحديثه المتزن اليوم، ويغيب وأغيب فأراه بعد عامٍ يتحدث مثل آخرين أعرفهم، لكنه لا يتحدث مثل نفسه التي أعرفها أبداً، وحول رقبته سلسلة أو في أذنه حلق أو في جوفه شيء غريب. أو أغيب ويغيب، فلا أراه كصاحبنا، وإنما أسمع عنه، محارباً في بلادٍ ما، وقد انضمّ إلى تنظيم مسلح مثلاً، وماهية ذلك التنظيم تختلف من حالةٍ إلى أخرى، ومن بلدٍ إلى بلد، وليس مجال حديثنا التعريف بالتنظيمات وما الشرعي فيها وما المحظور، لكن مجال حديثنا هو صاحبنا والتحول الذي حدث له.

وأرى آخر، يؤمن بكل شيء، لو حكيت له عن الله سيقول إنه مؤمن به، ولو حكيت له عن الشيطان سيقول إنه يحبه، ولو وضعتَ له تمثالاً بوذياً سيعبده، ولو أخبرته عن مجتمع الشواذ سيرسل لهم أحضاناً وقلوباً، ولو قلتَ له أي شيء مهما كان عادياً، سيرد عليك بمصطلحات وعبارات حصرية وتجعلك تفهم مَن هو بالتحديد، و”كل الدعم” لك وله.

ستجد نوعاً مختلفاً، وجد لنفسه شيئاً يملأ ذلك الفراغ، جمعيةً حقوقيةً مثلاً أو رابطة إعلامية، سيشعر بالتضخم مع الوقت، سيظن بعد شهرين أنه الوحيد الذي ينتمي إلى القضية نفسها، لا إلى مكتسباتها ومغرياتها، سيتدرج طبقاً لوفائه إلى التنظيم لا إلى الفكرة، وسيصير رئيساً ربما لمنظمةٍ حقوقيةٍ، يتحدث عن الرجل والطفل، والمرأة، ويغتصب الثلاثة كل ليلة بعد مؤتمره الصحفي.

ستجد أناساً آخرين، لن يتوسموا خيراً في أي من هؤلاء مهما كانت بينهم أمور مشتركة، سيظنون أن الله لم يهدِ غيرهم، وأن كل الذين يخالفونهم ولو في نظرةٍ واحدةٍ يستحقون جهنم، ويرون العالم كلها متآمراً ضدهم، وكل أحدٍ لا ينتمي إليهم فهو بالضرورة منتمٍ لخصومهم، وستجد معظمهم شباباً صغيراً، لا يعرف حكم الطهارة، ليس جهلاً منهم، وإنما ربما لأنه لم يبلغ بعدُ الحلم. وبين ذلك كله، لا بد أن نجد حلاً، أن نعثر على خريطة، حتى ولو أخذت كلاً منا في اتجاه، لكنه سيكون عارفاً بنقطة العودة، وإشارة التجمع.

هوية الفرد تتحدد بماضيه الذي كوّنه

وأرى أن الإنسان المجرد من الأفكار في الحاضر، وقد وجد نفسه منفرداً في مواجهة كل شيء، عليه أن ينظر بعمقٍ إلى ماضيه، أن يفحص الأفكار التي نشأ عليها وآمن بها، أن يفندها جيداً، ثم يختار منها ما يتسق مع داخله، فيجد أن الأصل كذا، والفطرة كذا، ودينه يأمره بكذا، ونفسه ترتاح بلا ندمٍ حين تفعل كذا، إذَن، فـ”كذا” سيكون بنداً من بنود إيمانه وفكره، ثم يكرر الأمر حتى يحصل على مجموعةٍ معتبرةٍ من القيم التي ورثها، حتى تتحول إلى قيمٍ اختارها وآمن بها، ولم تُفرَض عليه، كأن الزمان عاد ولم يجبره، بل خيّره، فاختار الأشياء نفسها من جديد.

هوية الفرد تتحدد بقيمه التي سار عليها في الحاضر

ثم ينظر إلى واقعه، ويفحص كل شيء فيه، ما الذي يتوافق معه؟ ومع أفكاره التي اختارها مؤخراً؟ وما الذي يخالفه؟ ما الذي سيؤمن به من مظاهر ذلك الواقع؟ وما الذي لن يؤمن به لكنه سيتقبله؟ وما الذي لن يؤمن به ولن يتقبله؟ وما الذي لن يؤمن به ولن يتقبله ولن يكتفي بالصمت تجاهه، بل سيعارضه ويواجهه؟ ويرى ما الذي يستهجنه، فيصير من القيَم المخالفة له، حتى يشكل بذلك قيَماً جديدة وأفكاراً مرتبةً، يؤمن بوضوحٍ ببعضها، ويكفر بوضوحٍ ببعضها، ويتقبل بعضها، ويحارب بعضها.

هوية الفرد تكتمل بماضيه وحاضره 

وبذلك يكون اختار له من ماضيه ما لا يجعله يتبرأ من نفسه القديمة، ثم يكون قد اختار من واقعه ما لا يجعله مدفوناً في إرثه دون إدراكٍ لواقعه، لكن تحتاج “الهوية” إلى أن تكتمل بشيء ثالث يخصه أكثر، وهو الناتج النهائي من تجاربه بين ماضيه وحاضره، فتلك التجربة منحته فكرةً تشمل كذا وكذا، وهذا الموقف أوضح له كذا لأول مرة في حياته، وتعامله مع فلان وفلان أكسبه خبرةً يتمكن من خلالها أن يتعامل بفهمٍ أكبر في المواقف المشابهة القادمة، وعمله في المكان كذا جعله يفهم أن تلك الأماكن تستوجب كذا، وهكذا…

حتى نصل في النهاية إلى ناتجٍ إجمالي جدير بالاحترام، أن فلاناً ينتمي إلى نفسه، وأن نفسه تنتمي بوضوحٍ إليه، عبر ما كوّنه من إرث قديم اختاره بعناية، وقيَم في حاضره تبنى بعضها وعارض بعضها، وأفكار أكسبته إياها التجارب، فصار لدينا إنسان له “هُوية”، يعرف مَن يكون، ويعرف كيف يتكلم، ويعرف إلى أي شيء ينتمي.

بقلم: غالب عوض الماحى محمد

 

أضف تعليقك هنا