الغرق المحتم في بحور الضياع

 بكبسة زر

أصبح الأمر بسيط  , إن أردت الإبتعاد عن هذا العالم الذي نحيا فيه ما عليك سوى أن تلتقط جوالك وتُبحر في أعماق عالمه الإفتراضي , وبهذا الإبحار أنا أؤكد لك أنك ستستقل عما كان يؤرق بالك ونفسك للأبد , وكل هذا بفضل مجرد كبسة زر ! ..

كان المعروف والمُتداول قديماً , في عصور الحياة الأولى ” البريئة ” التي كانت تُشبه وجة طفلة لم تبلغ من العمر سوا ما يُعد على أصابع اليد الواحدة , كانت الحياة حينها وبهذا التشبية البسيط هي الأخرى بسيطة , لا تعرف إلا القليل , ما تُخبرها عنه تتشربه وتتفهمه وما تأمرها به تُنفذه بمنتهى الخضوع والإستسلام , كأنك في مهمة محددة الأركان , أن تروضها وتلقنها كل الدروس التي يجب عليها أن تتلقاها حتى تستطيع أن تقف على أرجلها وتسير بعد ذلك , طفلة مُدللة ليس لديها أي فكرة عما ينتظرها من مصير غريب أطاح بها وبك !

وبعد مرور عمراً بأكمله , وفي صباح يوم أحد الأيام العاصفة , أفقت أنت من غفوتك لتجدها تبدلت أشد التبديل , وتحولت لما لم تحسب له حساب ! , ووقفت أنت تنظر لها نظرة تعجب وإندهاش وإنكار لما تراه , فترفض أن تراها هكذا ولكنك ومع الأسف مُقيد أن تراها على تلك الصورة القاسية , لا يمكنك أن تتهرب مما ترى ولا يمكنك أن تواجة أيضاً ! ..

ماذا تفعل يا مسكين ؟!

أين هي طفلتك المُدللة البريئة التي أخبرتها ذات ليلة أنكم لن تفترقا أبداً حتى يبلغ العمر أقصاه وتصلوا للنهاية سوياً بأمان ؟

أين هي تلك المُدللة التي لم تخذلك لحظة وأقسمت بالبقاء وألا تنقض العهد بينكم ؟!هل تغافلت عن كل هذا بمنتهى السهولة وأخذت تسلك طريقاً مختلفاً لا تعرف حتى أين نهايته وإلى أين سيأخذها ؟!  هل إقتنص يدها أحد وأخبرها أن تأتي معه ليسيروا في ذلك الطريق لترى جمال الورد المرصوف فيه ؟! 

ضحك عليها الزمن

مسكينة فقد ضحك عليها الـ ” زمن ” ورأت شوكاً أخذ يجرح فيها دون هوادة ورحمة , وكانت في هذه الحالة قد تخطتك وتركت وحيداً تحسبها تائهة في أحلامها بجوارك مثلك ! , هذا هو تخيلك البدائي الذي لن ترحمك الحياة نفسها بسببه بعد الآن , نفس الحياة التي كانت تتقاسم معك براءة المضمون والهيئة أصبحت الآن عنيفة , ذات ملامح باردة , تنظر إليك من بعيد نظرة الشفقة لما تصر أن تبقى عليه من سذاجة مفرطة لن تجد منها سوى الضياع في هذا الزمن الخداع !

وأول ما تبدلت إليه تلك الحياة التي تتعرف عليها الآن مرة أخرى هو ” عالمها الجديد” ..

الذي إستقرت فيه وإتخذت مأوى لها من شرور الزمن الذي لا يزال يتفنن في الإيقاع بها مجدداً , ونشر سيطرته عليها , فلم تجد سوى هذا ” العالم الإفتراضي “ الذي لا يمت للواقع بأي صلة , مجرد إحتماء قد يكون مؤقت ولكنها قد وجدت فيه بعضاً من آمانها التي كانت تجده في وجودك ! , عالمها الإفتراضي عالم يسكنه البشر أيضاً , وهم بنفس المواصفات البشرية التي خُلقنا جميعاً عليها , ولكنهم يتواصلون عبر حاجز زجاجي مُضئ أسموه ”  الشاشة ” , تلك الشاشة يكمن خلفها ملايين من البشر , من تلك النوعية من البشر , فلم ينتصر الزمن في سجن جميع البشر في هذا السجن الإلكتروني بعد , ولكن دعنا نقول أن من سيطر عليه الزمن في هذا السجن وقيده بقيوده الإلكتروني هم الغالبية العظمى ولم يقوى أياً منهم على تحطيم القيود والفرار منه حتى الآن ! , بل هم في إزدياد كبير بشكل لحظي , وكونك تقرأ هذه المقالة الآن فأنت منهم , وكوني أكتب هذه المقالة الآن فأنا منهم أيضاً , أرأيت أنها الغالبية العظمى بالفعل ؟ ..

سيطر عليهم هذا العالم سيطرة لا مثيل لها ..

لن تُكرر ولن ترى قوة جاذبة كتلك القوة التي تنبعث عبر شاشات هذا العالم فيما بعد , طاقة غريبة , كأنها السحر الذي قرأنا عنه في كتب الأساطير القديمة , نفس الكتب التي كنت تقرأ للحياة في سابق عهدها ” الطفولي ” بعضاً من القصص لتغرق في نومها , أصبحت الآن تلك الأساطير تُحقق على أرض الواقع ” الإفتراضي ” بجدارة , وأنت تقف تُشاهد كل هذه الفوضى التي تعم على الحياة ولا تقوى على إنتشالها والهرب بها بعيداً عن ما ينتظرها من مصير مُحير للأذهان !

سكان هذا العالم من البشر لا يأكلون ولا يشربون ! , نعم كما قرأتها , فالسحر المنصب عليهم عبر تلك الشاشات قادر على جذبهم إليها دون حتى الإلتفات لمن يُناديهم , من بعيد كان أو حتى يجلس بجوار آذانهم ! , لا يلتفتوا ولا يُعيروا أي كائن الاهتمام , فقط ناظرون للأمام يغوصوا بأعماق ما تتخلله تلك الشاشات ولا يسمعوا أي حركة تحدث حولهم ولا يشعروا بأي لمسة يحاول أحدهم لفت إنتباهه بها ! , فقط وجود كالعدم ..

الوقت يمر

والحياة تمضي سريعاً دون أن تتوقف لحظة , وسكان هذا العالم مازالوا غارقون في بحوره ! , والغريب أن طوق النجاة من هذا الغرق بين أيديهم ولكنهم لا يروه , فقط يروا الجهاز المُستخدم في الإبحار أكثر فأكثر , وأشعته المتوهجة تزداد في فرض سيطرة سحرها عليهم , وهم في هذا العالم لا حول لهم ولا قوة , فقط يُبحرون جاهلون إلى أين المقصد وأين هي نهاية هذا البحر العميق , أين شاطئه وأين الخلاص منه ؟! , يُبحرون برضا , كأنه موطنهم الأصلي الذي يعود إليه المهاجر مشتاقاً لترابه قيُسقسم ألا يتركه مرة أخرى ويمكث فيه حتى النهاية الآتية لا محالة ..

فإن كنت من القلة التي لم تدخل هذا العالم وتتخذه موطناً لها , فكن حذراً ألا تقع في شباكها التي لا رحمة فيها , وإن كنت منهم بالفعل , فعليك أن تُحطم قيوده وتتحرر منها , واجعل التوازن فيما تفعله هو مبدأك الأول والأخير ..

فيديو مقال الغرق المحتم في بحور الضياع 

أضف تعليقك هنا