قطار العودة

بدأت الحركة التجارية تزدهر بين ليبيا والجنوب التونسي، وبدأت الشاحنات تدخل مدينة مدنين يليها مدينة قابس، وفي القراجات والمساحات الكبرى والباركنقات يقع التزويد والتزود بالبضائع والسلع، لتنتصب سوق ليبيا في مكان قرب قنطرة الشمامة بين جارة والمنزل، وفي الحوانيت أين يقع بيع الجبن المستود بطريقة منظمة ومستمرة، لقد أصبحنا في مدينة قابس نعيش ليبي يحث معلبات البرتقال والأجبان وعلب التدخين من نوع الرياضي، تلك العلب ذي الألوان الزرقاء والحمراء، والله يرحمك يا سي معمر..

شعور يتمرّد علينا طالبًا الوحدة 

وما أحلى الشوق والتوق إلى الوحدة، لقد أصبحنا حقا نعيش الوحدة التونسية الليبية من دون عقد ولا مركبات، في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، المخيمات الليبية والعائلات منتشرة هنا وهناك في خليج قابس، سيارات تتجول في اتجاه كتانة وطبلبو، بكل حرية وبدون رقابة على شريط خليج قابس الممتد على مدى أربعة عشر كلمتر، وما أحلى الملتقى في مشوى الحوت في حي الشاطئ العربي القريب من الميناء ومن نزل الشمس والواحة حيث لا يفصل بينهم سوى وادي يخرج من البحر ليصل إلى حدود قنطرة سيدي أبو لبابة.

على طريق في اتجاه مدنين وليبيا، عوامات خشبية، ويا حوت المشوى شوقتني للقاء، وهي عوامات بمساحة ثلاثين متر للعوامة الواحدة بينما تصل أدناهن عشرين متر فقط، وتحتوى على قاعة وسط ومطبخ وبيت راحة للفضلات البشرية صغيرين تلقى في في برميل يدخل في الأسفل في التراب بعمق خمسة أمتار بحكم أنها أمكنة مخصصة في الصيف فقط.

ماهي طقوس المدينة المعتادة؟

كانت مباريات كرة القدم ولعبة كرة الشاطئ هنا وهناك عند حلول المغرب والشفق الأحمر وما أحلى الشفق الأحمر في شاطئ قابس غير بعيد على النزل السياحية من جهة اليسار والبنقلو من جهة اليمين تلك المنطقة المبنية حديثا لمكان يقصده البرجوازيين الجدد في قابس. والبنقالو شاطئ جديد على منوال المناطق السياحية يحوى منازل صغيرة. إنها الموضة في مدينة قابس الذهاب إلى البنقالو البرجوازي.

بينما برجلية فرفر كان مع الجماعة في كل غداء على ساحل البحر يجتمع مع الشلة حول أرز أو مقرونة أو كسكسي الحاجة صحبية المرموري كما يلقبها حفيدها التيمومي القابسي، وذلك في البراكة العائمة التي على ملك خاله “هدهود” يلعبالشطرنج عند المساء أو السكرابل أو الدومينو مع أبناء الخال أو العم أو مع ابن الحاج في البراكة العائمة في الصف الأمامي الثاني بينما براكة هدهود كانت في الصف الثالث، والأولى قديمة في اللون الأخضر تقشر لوحها والثانية يقوم صاحبها هدهود بالصيانة بالدهن البني والزيت.

أجواء خاصة بالمدينة

كانت الفلول المتلونة والمتنوعة الآتية من صفاقس وقفصة وليبيا والمكناسي منتشرة في قواطين أعدت في التنزه على مدى اليوم والمزركشة بالأغطية الحمراء والخضراء فتعطي بهجة على البحر الشاسع الذي يعطي زئير وحشي مخيف في الليل نظرا لاتساعه وأفقه اللامحدودة.

كان القطار واقف المحطة في لاقار باب البحر انطلاقا للرجوع لمدينة تونس العاصمة، وما أصعب تلك اللحظات على برجلية فرفر الذي يعتبر مدينة قابس أرض الأجداد والأحباب والوالد والوالدة، وبدأت القطار ينطلق رويدا رويدا يطلق صافرة حماسية حتى يرفع من معنويات المسافرين الذين سيقضون ستة ساعات كاملة هذا دون اعتبار التأخيرات التي قد تطرأ في الرحلة بسبب ضيق السكك وقدمها، وبدأت الطاولات المتحركة لخادم القطار تمر حول المقاعد ومعها المشروبات الغازية والقهوة الساخنة وقطع المرطبات فاقتنى برجلية فرفر قارورة “فيفا بينما اعترضت والدته أوأو كعيكة لأنها تعتبر ذلك قلة لياقة وعدم احترام لقدسية القطار.

ماذا بعد وصول القطار؟!

وصل القطار إلى مدينة صفاقس المعروفة بحركيتها الدائمة والغير العادية فتصعد فلول العائلات التي تستعد للعودة المدرسية مع الجنود العالقين هناك بسبب المشاكل المادية أو أسباب أخرى مجهولة، ثم توقف القطار في مدينة بئر بورقبة المنطقة العسكرية، فانفجر فجأة بوق يأمر الجميع بالانضباط ويهيئهم لاستقبال العاصمة التونسية بعد ثلاثة أشهر من الفراق الكبير، فظهر النشاط يظهر على الجميع من جديد بعد نوم عميق ، طالق عديد الساعات كيف لا ونحن لا يفصلنا على العاصمة التونسية سوى عشرات الكلمترات التي تفصلها على مدينة قابس أربعمائة كلم بالتمام والكمان.

صرخة تمرُّد

في بداية السنة الدراسية ،بدأ الحضر الجوي على ليبيا، وكان برجلية فرفر في السنة الثالثة ثانوي عندما اندفع التلاميد في ليسي حنبعل بمدينة الورد: وهذه أول مرة يرى فيها برجلية فرفر مظاهرة تلمذية واشتباكات ودية مع الأمن وقنابل اللكريموجين الذي يرد صيحات من نوع نحن غراب عن.. والمستعمر في الهاوية.. ، إنّه حقيقة شعور بالغربة في عالم لا يعترف بحق الشعوب المستضعفة وحقها في العيش الكريم لكن التمرّد أعجب برجلية فرفر الذي دخل في عالم التمرد والشعور بالقهر والمذلة والهوان.

فيديو مقال قطار العودة

أضف تعليقك هنا

هاني القادري

هاني القادري كاتب تونسي