مجالس قرآنية 9 (جوعٌ وخوف)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) قريش: ١ – ٤

تفسير سورة قريش

الحمد لله الخالق المعبود، والصلاة والسلام على صاحب الكرم والجود، وبعد: منذ الآلاف السنين أعلنها خليل الرحمن: “رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات” البقرة 137، ويستجيب الله لتلك الدعوة؛ فمكة خالية من الزرع والضرع لكنها كانت تعيش في أمن ورزق، حتى وصل إلى قريش فيذكرهم الله بتلك النِعم، فيقول:

تأليف قلوب قريش

” ﱁ ﱂ” اللام لام التعجب والإيلاف من تآلف النفوس، وهي من أجلِّ النِعم، وهي منحة ربانية كما قال تعالى في حديثة عن الصحابة: ” وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم (63) الأنفال، فمن رحمة الله بقريش أنه ألَّف بينهم، وهم يعبدون غيره من الأصنام والأحجار ويطلبون منهم النصر ويشركون به، ولما كان هذا التآلف وحده لا يكفي في بلدٍ لا يوجد فيه زرع ولا ثمر، أنعم الله عليهم بأن جعلهم يتفقون ويتعاونون لتحقيق لمعيشتهم في رحلة قال عنها:

تخصيص نعمة الرحلة بعد نعمة الإيلاف

ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ فهو تخصيص لنعمة الرحلة بعد تعميم لنعمة الإيلاف؛ فقد هيأ الله لهم سبُل التجارة والكسب مع أطراف الجزيرة العربية، فكان لهم رحلة بالشتاء إلى اليمن، وبالصيف إلى الشام، وهذا يتكرر في كل عام؛ فازدهرت مكة واستغنى أهلها، وأول من سن لهم الرحلة هاشم بن عبد مناف. ومن المُسلَّم به أن هذه الرحلة كانت محفوفة بالمخاطر من قطاع الطرق والقبائل الأخرى,

لكن الله جعلهم في مأمن من ذلك كله باعتبارهم رعاة البيت الحرام وحارسيه والمؤتمنين عليه، فكانوا يَمِرون في الشتاء والصيف آمنين، فكانوا إذا عرض لهم عارض قالوا: نحن أهل حَرَم الله، فلا يَتَعرضُ الناس لهم. فلولا الرحلتان لم يكن لهم مقام بمكة، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف والريادة.

من شروط النِعم الطاعة والشكر

وبناء على تلك النعم (الإيلاف والرحلة )، تأتي: ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ الفاء لسرعة المباشرة بشكر المُنعِم، فمن شروط النِعم شكر صاحبها وعبادته، وذلك بطاعته والخضوع له والالتزام بشريعته، ومن بديع القرآن اختيار كلمة “ربَّ ” دون غيره للتذكير بالعناية والرعاية والاهتمام؛ فالرب هو الذي يهتم ويعتني بمربوبه، وخص ذكر البيت للإيماء بأن البيت هو أصل النِعم ومنها الإيلاف والرحلة، ليس هذا فحسب بل يُذكرهم بأمرين لا غِنى لأي مجتمع عنهما:

ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ، فبلد لا زرع فيه ولا ضرع، وفي وسط صراعات ومناوشات كيف لهم أن يستقروا فيه، فأطعمهم في بلد الأصل فيه الجوع، وآمنهم في عالم يُتخطف الناس من حولهم؛ فمن تمام قدرته سبحانه وتعالى وأنه إذا أراد شيئاً هيّأ له أسبابه؛ فتمت أركان العيش الرغيد في المجتمع: تآلف فلا صراع، وإطعام فلا جوع، وأمن فلا خوف.

التعجب من جحود قريش لتلك النِعم

أليس عجيباً، بل من كفران النعم، أن يؤلِّف الله بينهم، ويُهيئ رحلتهم ويجمع لهم مع ذلك الإطعام والأمن ثم يعبدوا غيره!!، إنها انتكاس وانقلاب وإعراض عن الرب الوهاب.ولئن كانت السورة تتحدث عن قريش، فهي تتضمن رسالة عامة؛ فكل مجتمع قد رزقه الله من النِعم ما هو أدرى به وألصق بمباشرته، فليعجلوا شكر ربهم، وليعبدوه قبل نزول عذابه.اللهم آلف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سُبُل السلام. والصلاة والسلام على خير الأنام.

فيديو مقال مجالس قرآنية 9 (جوعٌ وخوف)

أضف تعليقك هنا