تأملات في التجربة الفنية للفنانة التشكيلية نجاة الذهبي في علاقتها بالمسرحة الجسدية

لعل تزامن معرض “دياري” ل”نجاة الذهبي” و وفاة أيقونة البحث النسوي “نوال السعداوي” كان صدفة عفوية إلا أنني أرى فيه تزامنا في محله و كأن “الذهبي” قد كرمت ثقافة الجسد الأنثوي بجماليته و سلطته و عنفوانه الذاتي القوي، كل الشخوص كانت بمثابة المرآة الصادقة التي تعبر عن ألوهية الجسد أمام سلطة العقل ليس لهذا علاقة بالفلسفة “المرلوبونتية” إلا أنها تسقط في هذه المعادلة الأركيولوجية التي من خلالها “تتعرى شخوصها اليومية  في شكل حر و شجاع”[1]. كلمات الذهبي تطرق أذن و مسمع من يزور  معرضها لينظر إلى تلك اللوحات و كأنها قطع مسرحية منتظمة متكلمة معلقة على جدران صامتة .

ماذا تقدم لوحات الفنانة  “نجاة الذهبي” للرائي؟

الحضور الممسرح للجسد الأنثوي عبر تموضعات مختلفة قد يتجلى في هيبة و وقار زيتي غاية في التباهي و الأنفة و يبرز تعبيريا من خلال ضربات الفرشاة على القماشة، فيصبح تلك النافذة المفتوحة على مصراعيها لمجموعة من الأفكار الوجدانية متداخلا مع القيمة الجمالية للواقع اليومي الذي تطرق “الذهبي” أبوابه فنرى يومياتها أمامنا يوميات امرأة تونسية مفعمة بالحياة والفن.
فتتداخل الطرق وتمتزج من خلالها ليقدما لوحة فنية و كأنها مسرح من الشخوص تحاول الذهبي من خلاله آن تقدم رؤية واقعية للأشياء ضمن تصورات عفوية حالمة للبيئة التي تنتمي إليها.” فالتعبير الفني يبقى عملية امتزاج كامل بين الذات والموضوع، الذي هو في أصله شيء خارج عن الذات يصبح بعد التجربة الفنية مستساغا وقابلًا للذوبان في فضاء الخبرة الشخصية للفنان”[2].
لوحات تنطق، تضخ أمواجا من العواطف و الهيجان والآلام والملذات، كلها تجارب تخترق الجسد الأنثوي المنتصب في ركن من أركان اللوحة، وتتموقع على هامشه الحدودي ضمن مجموعة من النقاط التي تربطه بالأشياء وانفتاحه على العالم و هكذا تدرك الأجساد والذوات بعضها بعضا بحكم انتمائها إلى عالم مشترك كتجارب ذاتية، وإدراك الموضوع العام للوحة ينطلق عبر تحديد ماهية الانسجام الذاتي.

العلاقة بين القيمة الحسية و الهيئة الجسدية في اللوحة

إن البحث في طبيعة العلاقة المبنية بين القيمة الحسية الغريزية الباطنية و حقيقة واقع الجسد قد شغلت أجيالا عديدة من المفكرين و المبدعين، وما زالت مربض الفرس لمجموعة من الفنانين المعاصرين الذين اخذوا على عاتقهم الإجابة على مجموعة من الأسئلة المعضلية التي تدور حول فلك و هالة الجسد في مسرح اللوحة التشكيلية اليوم .
فاللوحة حقل لاجتماع الهيئات الجسدية، إنها مساحة للمشاجرة و التسامح ،احدهما يتطور في بعد مرعب و خيالي و الآخر يقف على الجانب فقط يحدق ويتقلب لتغيير و غزو و تحويل مساحة اللوحة لمسرح نابض، عن طريق البحث في تجليات الجسد تحت مواقفه المتعددة لتجديد دراماتيكي من اجل تسليط الضوء على بعض جماليات تمثيلها في اللوحة “الرسامة تبدو منجذبة لأطروحات الفلسفة بخصوص الجسد فجاءت أعمالها ضمن نسقية عدم حسم الفلسفة لمسالة الجسد”[3] .

عدة أسئلة فلسفية جمالية بخصوص لوحات الفنانة “الذهبي”

و لعل هذه الفكرة من بين الأفكار المتعددة التي لاقت صدى في ثنايا لوحات المبدعة الفنانة التشكيلية التونسية “نجاة الذهبي” و التي مثلت الجوانب الصعبة في البحث الاجتماعي اليومي بوضع سياقات و تموضعات جسدية مختلفة مسرحت بها فضاء اللوحة . أجموع هذه الأفكار و غيرها تضعنا أمام طرح أسئلة فلسفية جمالية من قبيل: كيف يمكن قراءة الجسد بعمق ؟ كيف عبرت عن أفكارها و قامت بصياغتها ؟ كيف أصبحت حركة الجسد لغة تعبيرية بدلا من اللغة الشفهية؟ و ختاما هل أن الإبداع الفني لدى “نجاة الذهبي” تجربة اجتماعية موضوعية أم قد شق دروبا أخرى؟

الشجاعة الأنثوية تشع من لوحات “الذهبي”

إن “ميسزانسان” الجسـد مع نجاة “الذهبي” يعمل كمنارة حدودية فيرصد حدود حضور الشخص تجاه الآخرين فتفكر من خلال الرسم وتحول رؤيتها إلى إيماءة ، حركة ، كلمة أو حروف، و يا لها من كلمة مخطوطة بعفوية على قماش اللوحة و كأنها ببساطة تكتب يومياتها ضمن دفترها الخاص لتصبح اللوحة دفترا يشخص و يضبط تفاصيل حياتها اليومية، إنها الشجاعة و البسالة الأنثوية التي تشع من خطاب “نجاة الذهبي” و هي تناجي المشاهد بألوان دافئة تارة و باردة تارة أخرى فتقحمه ببراءة و ضمنيا ضمن ثنايا حياتها ليصبح الفن لديها مطية و سلاحا تحرر عبره فكرها من حوادث الكلام الصامت.
وفي اعتبار كون إدراك الجسد يقدم لنا مدخلا للوصول إلى الواقع و إلى الذات، وفي اعتبار أن فن الرسم قد ولد من هذا الجسد المدرك لما حوله فإن حركة “الذهبي” هي في الحقيقة أنطولوجية ترصد عبرها انفعالاتها و هواجسها. و ليصبح الجسد موضوعا تشكله كما يحلو لها ،تطرح أسئلة في صورة عناصر أساسية من الانعكاس والانفتاح على القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية. هذه هي إحداثيات التفكير اليومي ،هذه الببليوغرافية الخاصة بها  و التي تظهر انتقائية من خلال إدخالات كبيرة تمثل ترتيب وتجريد الجسد.

حضور الجسد في أعمال “الذهبي” ليس مجرد تفاصيل

فتتحرر “الذهبي” من سطحية و محدودية الألوان لتنطلق نحو أفكار توقظ في النفس الحياة و تدفع بشمس الأفكار لتطلع و تبزغ ثم لتبرز بين رماد الركود الذي كان و لا يزال سببا في تخلف المجتمعات، فتنهض من الوهمية أو المعنى الميتافيزيقي من جهة أولى، ومن جهة ثانية، ليس مجرد جني أو قطف معنى الحاضر ، وأن تطهر التصور الذي يحمله ذاك المعنى فقط بل هو بحث في تشعبات الحياة حتى و إن كانت بسيطة فهي ذو عمق “ذاكروي” يعشش في خلايا الذاكرة ليستنطقها و يفحصها آليا عبر الشخوص الممسرحة أو عبر الحروف المخطوطة.

حضور الجسد في أعمال “الذهبي” مسألة مركزية و الحاضر بقوة ليس مجرد تفاصيل و لكنه بطل حدوتة، تفكير في الهوية الأنطولوجية التي تقودني إلى هويات المسرح الصامت المعاصر و إلى التساؤل عن أنماط الحضور الذي اخترعه المخرجون ومصممو الرقصات المعاصرون. من وجهة نظري هو الرغبة في العودة إلى المصادر الأصلية للجسد المثير الفعال في صياغة المشهد. في الواقع يتعلق الأمر بالإخراج الفعلي للفضاء و أصل الكلام الجسدي ، لإظهار الجسد المتحول/المتجزئ و المتمرد على سطح اللوحة.

تتساءل “نجاة الذهبي” عن حالة الجسد في اليومي ، عندما يصبح الجذر الأصلي، مصدرا للحقيقة عبر عدة أمثلة مستمدة من يومياتها فتظهر متأرجحة بين الجسد المرسوم و الجسد المفاهيمي باسم البحث عن الكينونة فلم يعد هذا الجسد جسدا فضفاضا بل مليء بالألغاز ليضحى جسد/موضوع و ليس جسد/شيء. و لطالما أن الوجود المشترك للأجساد هو ما يحدد الأداء الفعلي للخطوط و الألوان الموضوعة على القماشة أو على دفاتر الذكريات و كأنها “ميزانسان” مسرحي . إن مسالة الجسد/الذاكرة لا تنشا من فراغ بل الوجود الحقيقي للجسد عندما يتم العمل على النماذج التي تروق لها لهيئات الوسيطة من خلال مقاطع أو تجزءات. فكيف إذن نستطيع أن نحدد هذا الوجود الوسائطي ؟

ما أهم مميزات التجربة التشكيلية الممسرحة لدى “الذهبي” ؟

نفكر هنا في أعمالها “الذاكروية” بدرجات متفاوتة فيختلف الوجود حسب التبادل الوسائطي من المنطوق إلى المكتوب إلى المرسوم  فهل يمكننا استحضار ازدواجية الحضور و الغياب في نفس الوقت؟ هل يمكننا ملاحظة تفكيكًا حتى للصورة المحاكية؟ تسلط الذهبي الضوء على اتجاه واضح الملامح ينطلق من الرغبة في إعادة التهيئة  نحو الافتراضية الذاتية وإقامة الصلح بين الجسد و الفكر. الوصف الاجتماعي للحدث من أهم مميزات التجربة التشكيلية الممسرحة لدى “الذهبي”، في حين يبدو أنه يتوافق مع قواعد الموضوعية الحسية.

إن اللجوء إلى التوظيف المسرحي هو عملية تسمح للمشاهد بقراءة العمل خارج الإطار التقليدي، من خلال التحكم الأفضل في الأداء المادي للشخوص المرسومة على اللوحة، ومع ذلك لا يجب اختزال التوظيف إلى تحركات بسيطة يمكن من خلالها للمشاهد أن يلحظ ميزة فنية للأداء. تعد هذه الممارسة موضع بحث و وجهة نظر اجتماعية (نظرا لأن الشخوص يتم اختيارها وبناؤها بوضوح من أجل الصالح الشخصي للشخوص ، ويعمل على تعزيز كفاءته) ومن الناحية الجمالية وجهة نظر (حيث يمكن مقارنة طرق وجود الشخصية بسهولة من خلال حساسية المشاهد).

وبالتالي، يشكل التوظيف وسيلة لإشراك المتفرج في المشهد، من خلال تثمين تجربته الشخصية للواقع الاجتماعي، وتحويل هذه التجربة إلى أداة لقياس تفرد التمثيل. هذا الحشد للتجربة الشخصية للمشاهد هو ما يؤسس ، من خلال الترسيخ الذي يجعله تلقائيا لمعنى الحدث في السياق الاجتماعي المعاصر، تقديره للحدث المسرحي كوسيلة لإنصاف الأشخاص المحتقرين ظلماً، لأن من سماتهم الشخصية، وعدم تمثيلهم بشكل كافٍ أو تمثيلهم بشكل ضعيف في الخيال الثقافي للمجتمع التونسي.

الأمثلة التي تبني عليها الفنانة “نجاة الذهبي” تفكيرها تنظم الهيئة الغير مادية للجسد، جسد “منحل”، جسد في حالة “انقسام” نفسي، وهكذا يصل الأمر إلى استنتاج مفاده أن البحث عن الحقيقة قد حول الجسد  كهيئة / موضوع، أو بشكل أدق كجسد العقل المتحرر من كل دلالة ليصبح الجسد ك”دال”: جسد المرأة بالخصوص. في الواقع، تتميز بأجساد لا تتناسب في أي هوية معينة – سواء كانت جنسية أو زمنية أو مكانية أو اجتماعية – ، أجسام ذات هوية كونية.

المراجع:

[1] – مقابلة مع الفنانة نجاة الذهبي و يحاورها الصحفي رمزي العياري 18/03/2021

[2] محمد زكي العشماوي، فلسفة الجمال في الفكر المعاصر، بيروت – لبنان: دار النهضة العربية، 1981، ص52.

[3] – الرسامة نجاة الذهبي، فرشاة تحرر الجسد بالألوان و تمنحه كينونة اخرى الصحفي رمزي العياري ultratunisia.ultrasawt.com  18/03/2021

 

بقلم: جيهان القارة

أضف تعليقك هنا