الممارسة السياسية في ظل دولة الحق والقانون

ترتبط السياسة بالممارسة الجماعية للإنسان في أعلى صورها، والسياسة هي فن تحقيق الممكن في إطار ما يتوفر من إمكانيات وهي أيضا علم يهتم بتدبير شؤون المجتمع بما يكفل أمن واستقرار أعضائه، ولا يمكن للسياسة أن تستقيم إلا بوجود كيان سياسي هو الدولة التي ترمز في معناها العام إلى ذلك التنظيم الذي يشتمل على مؤسسات سياسية وقانونية وعسكرية واقتصادية وإدارية مهمتها الأساسية هي المكلفة بتدبير الشأن العام للمواطنات والمواطنين، ومن أركان الدولة السيادة والشعب والإقليم البري والجوي والبحري.

دور الدولة في تنظيم المجتمع من وجهة نظر بعض الفلاسفة

إن هذا المعنى يفيد بأن المجتمع غير قادر على تنظيم حياته وشؤونه الداخلية بدون وجود كيان اسمه الدولة، تحكمه وتدبر أموره، وتقوم بمهمة أساسية ألا وهي حماية الأفراد من عنف بعضهم للبعض وتقطع مع منطق العدالة الخاصة التي كان يقتص من خلالها كل واحد لنفسه.

وجهة نظر الفيلسوف هوبز

لقد اهتم العديد من الفلاسفة في الفكر الفلسفي القديم والحديث بالدولة، فهي من وجهة نظر الفيلسوف هوبز أن الناس كانوا يعيشون في حالتهم الطبيعية الأولى في حالة حرب وفوضى، وهذا دفعهم إلى الرغبة في الأمان والاستقرار، وتطلب ذلك تنازل كل فرد عن حق السيطرة والذي تولد عنه انبثاق عقد اجتماعي يعمل على تركيز السلطة المطلقة في يد شخص واحد مستبد وقوي.

وجهة نظر جون لوك

بينما يرى الفيلسوف جون لوك أن الدولة تعتبر تعاقدا اجتماعيا بين أفراد المجتمع من ناحية، وبين الحاكم من ناحية أخرى.

وجهة نظر الفيسلوف جان جاك روسو

ذهب إلى أنه لا يُمكن أن يقوم التعاقد على القوة كما يرى هوبز، وإنما اعتبره روسو نوع من أنواع المشاركة بين الملك والشعب، وحدد روسو مجموعة من المبادئ التي ينبغي أن يقوم عليها العقد الاجتماعي ومنها الحرية والمساواة والتضامن والتكافل، والفكرة الأساسية لهذا العقد هو أن يتنازل كل فرد عن حقوقه لصالح الدولة، التي تعبر عن إرادة الشعب وتمثلها، وليست للحاكم المستبد فقط، وعلى أساس هذا التصور تم تأسيس الكيان الذي أصبح يسمى “الدولة”، التي تم اشتراط أن تحقق الصالح العام وأن تنبع قوانينها من الشعب الذي يمثله البرلمان.

شرعية الدولة في ممارسة العنف المشروع أو العنف الجيد

إن فكرة احتكار العنف الشرعي، من قبل الدولة من خلال امتلاكها للقوة القهرية يتأسس على فرضية أن العلاقة بين أفراد المجتمع قائمة على التنازع والصراع، ومن هنا تستمد الدولة شرعيتها في ممارسة العنف الجيد أوالمشروع الذي يهدف إلى إحلال السلام مقابل العنف السيئ الذي تنتج عَنه الفوضى.

إن شرعية العنف ناجمة عن شرعية الدولة وقيامها بوظائفها، ذلك لأن غياب هذه الشرعية يحول عنف الدولة إلى عنف سيء، ولهذا يرى مجموعة من الفلاسفة والباحثين بأنه لا يمكن بحث قضية العنف أو فهم ظاهرته بعيدا عن بحث مسألة شرعية الدولة نفسها، فما يَصدر عن الدولة من ممارسة وما تصنعه وتطبقه من سياسات لا يكتسب شرعيته الأخلاقية إلا من شرعية الجهة الصادرة عنها من جهة، ومن شكل هذه الممارسة ومدى احترامها للمعايير التي تعبر عن الجماعة من جهة ثانية، وفي حالة غياب هذه الشرعية، ستعم الفوضى بسبب عنف سيئ وعنف آخر مضاد، والذي يؤدي الثمن هو المجتمع الذي يجد نفسه ضحية عنف مزدوج.

إذا كانت الدولة تحتكر العنف الشرعي، فإن وظيفتها هي احترام الحقوق والحريات الأساسية المنصوص عليها في الدساتير خاصة في الجيل الجديد، ولهذا فقد يشوب ممارسة الدولة لقوتها القهرية ما يسمى بالشطط في استعمال السلطة، فتتحول بذلك من سلطة تنظم شؤون المجتمع وتحقق الرعاية لأفراده إلى سلطة قاهرة مستبدة.

 بعض الأسئلة حول موضوع شرعية الدولة باستخدام العنف بالمجال التنظيمي أو الاستبدادي

إن هذه الإشكالية تفرض طرح مجموعة من الأسئلة الجوهرية من قبيل، هل تمارس الدولة سلطتها بالقوة أو بالقانون، بالحق أم بالعنف؟ ألا يمكن الحديث عن عنف مشروع تحتكره الدولة؟ وهل دولة الحق دولة عنف؟ وما هي أسس قيام الدولة الحديثة؟

وجهة نظر الفيلسوف ماكس فيبر

إن الدولة تحتكر حق ممارسة العنف المشروع، والذي يقصده هذا الفيلسوف المعاصر يُمكن استخراجه من تعريفه  للسياسة  بأنها فعل يقود تجمعا سياسيا يسمى الدولة، أو التأثير الذي يمارس في هذا الاتجاه، إنها حسب فيبر مجموع الجهود التي تصدر عن تجمع سياسي ما، للمشاركة في السلطة أو التأثير في توزيعها بين الدول، أو بين مختلف التجمعات السياسية داخل نفس الدولة، ويرى بأن العنف الذي تمارسه الدولة يعتبر مشروعا، ولذلك لا يحق لأي فرد أو جماعة ممارسة أي نوع من أنواع العنف، إلا بتفويض من الدولة. إن ممارسة العنف المادي من اختصاص الدولة، لأنها تعتبر المصدر الوحيد للحق في العنف المشروع القائم على القانون.

وعكس ماكس فيبر الذي يقول بأن الدولة تقوم على أساس العنف المشروع، فإن  جاكلين روس، ترى أن دولة الحق والقانون تعتبر الصيغة القانونية القائمة على مبادئ القانون والحق ومهمتها هي ضمان الحقوق والحريات، وهي من وجهة نظرها تقوم على فكرة الحق.

وجهة نظر المؤرخ والفيسلوف المغربي عبد الله العروي

يرى أن الدولة هي التي تجمع بين الإداري والسلوكي الأخلاقي، أو ما يسميه “الأدلوجة”، ذلك حسب العروي أن أجهزة الدولة إن اقتصرت فقط على ما هو توجيهي وتأديبي وحدها لا تضمن الاستقرار، ولهذا يلزم  الدولة العصرية يقول العروي ضرورة امتلاك أدلوجة تضمن ولاء المواطنين وإجماعهم وتوحيد سلوكياتهم.

الفرق بين الاستبداد والعنف المشروع

إن قيام الدولة بمهمة حماية أفرادها من عنف أنفسهم، وحقها في امتلاك العنف المشروع، من المواضيع التي أثارت وما زالت تثير الجدل في الفكر الفلسفي القديم والحديث، ومن ذلك ما ورد في النص، حيث تتوزع الآراء الفلسفية بين من يرى ممارسة العنف باعتباره آلية أساسية لضمان الاستقرار والاستمرار ومواجهة كل التحديات التي تهدد كيان الدولة، وبين من يرى أن الدولة تقوم على الحق والقانون بحيث أن وجودها أو بالأحرى شرعية الدولة تستمدها من القيام بمهمة حماية الحقوق والحريات الأساسية.

ومهما كانت مبررات لجوء الدولة إلى العنف المشروع فإنه مع جيل دساتير الحقوق والحريات، أصبح مطلوبا من الدولة في ثوبها المعاصر التخلص من الصورة السيئة التي التصقت بها بسبب الاستبداد واستعمال قوتها القهرية من أجل بث الرعب والخوف في نفوس المواطنين.

وعليه، فإن فكرة الدولة التي تحتكر العنف المشروع، لم يعد مبررا لممارسة الاستبداد، لأن من شأن ذلك عزل فكرة العنف الجيد، عن سياقها وأصولها، والمطلوب اليوم مع التحديات التي يواجهها العالم تأسيس مفهوم جديد للدولة بدأه فلاسفة معارضون من أمثال جون رولز في حديثه عن العدالة التوزيعية.

بقلم: لطيفة الهيثمي

أضف تعليقك هنا