بقلم: طارق المنيظر

ولنا في مائدة الإفطار ذكريات..

قبل عشر سنوات على أبعد تقدير، كان لمائدة الإفطار ذلك الذوق الشهي الممتع والماتع بلحظات من الشوق والحماس. قبل الإفطار بقليل، حيث ينذر الضجيج وتقل الهرطقات، لا تكاد تسمع وشوشة غير هُدَاهِد الهدهد من جهة ومن جهة أخرى تطل بومة صغيرة من فوق فرع الشجرة المجاورة لقصدير الخيمة، فتصدر ضبحا كان يعد في ثقافتنا العامية بمثابة نذير معلن عن نحس قادم. لهذا بمجرد ما نسمع ضبح بومة بجوار المنزل حتى يسارع أحدنا رميها بالحجر تجنبا للنحس الذي قد ينزل على خيمتنا. قبل الأذان، تلاحظ حركة غير عادية في المنزل، الكل يتأهب ويجري في ذهاب وإياب من أجل المائدة. صدى الذهاب والإياب يدب بين المطبخ ومائدة الإفطار في حركة مد وجزر منقطعة النظير. لا ندري هل هذا الجو المهجور سيحي بعد أم مات للأبد؟ قبل أن يتجرأ النوم على أخذنا إلى عالم الأحلام، كنا نمضي هذه القطع من الوقت في الاستماع إلى المذياع. كان محمد عمورة يأخذنا إلى عالم آخر من خلال برنامجه الأسبوعي “منك وإليك” أو “حضي راسك” و”مسابقات مفتوحة” وغيرها من البرامج التي تبث مرفقة بهذا الصوت النموذجي الوهاج، ومواضيع ذات صيت مشوق.

ولأيام الدراسة نكهة أخرى

كان المذياع أنيسا ننسج معه رفقة وفية لما له من فضل في السفر بنا عبر زوايا العالم الأربع. بدت لنا الأيام جميلة وباعثة على الحياة ببساطتها التي كانت تجعلنا نتعلق بحبها أكثر. في موسم الدراسة، ونحن صغار، كانت اللحظات، في الحين الذي نسرق فيه قسطا في المقهى، بمثابة الاستثناء الأسبوعي. من حسن حظنا، كانت الدراسة مبررا يسمح لنا بالخروج للمقهى تحت مبرر انتظار حصة ما بعد الزوال. أما غيرها فكنا شبه واثقين من عدم منحنا هذه الفرصة الذهبية. تدحرجت الأيام وتوغلت في الفوضى حتى أصبح لللاوقت وقته. حتى في المقهى اليوم كل يجلس على حافة وحدانيته مع جهازه (الذكي)، يراقب أوجاع العالم وتقلباته في صمت مخيف.

شقاء ماضينا حلاوة

صغار في سننا الطري، نخرج جماعة لسرح الماشية. تلك الماشية التي تطبعها السحنة البلدية التقليدية. وأنت تقود القطيع إلى المسرح، تملأ أنفك سحابة الغبار الذي تحركه أرجل الماشية فتألف ذلك ويبيت نمطا من يوميات طفولتك. لم نتعلم اليأس أو ترك الهوية القروية والاختفاء وراء بروفايلات مصنوعة في قالبها الحضري بتعديلات جميلة تخدع العين وتسر الناظر. علمتنا الحياة أن كسرة الخبز ليست بسهلة المنال أو مرنة الكسب. من الحاجة ومن وحل العراقيل ومرارة التحدي، تعلمنا التمرد على الكسل. لم نتعود على الانسلاخ من الجذور ولا العدول عن الأصل. تمشي في الشارع وأنت تخطو خطواتك، تعود بك الذاكرة على الوحل والغبار والمنعرجات والسياج والوديان…

مقالات متعلقة بالموضوع

حياتنا الآن باتت بلا حياة

فتسدل الستار لحظة على ذاكرتك تجد أن الدنيا تغيرت وأنت قد عدت متسللا وأنك على مشارف فقدان بطاقة هويتك. لم تعد تفهم شيئا تكتشف أنهم رموك في عالم مفبرك تعيش فيه لاجئا وضائعا. لم نتعلم في المدرسة أن التصريح بمهنة الأب يثير الخجل أو هو مدعاة للذعر بل سبيل للفخر والاعتزاز. فيد الفلاح تفوح عطرا وتمهد رزقا؛ فهي يد مباركة مكللة بالخير والنعم. من التجاعيد التي تعتلي وجه الأب نسقي قدسية الماضي وشهامة النفس، حين تنضج حبات الزيتون ويخرج في حماس أهل البيت للجني ونحن الأطفال نلعب بجوارهم في ذلك الدفء الأسري، نلعب “رشيطة” و”الملاقف” و”الكاش- كاش” و”السباق”، أتذكر تعرجات الجبل ومنعرجات الطرق والتواءاتها ونحن نتوجه باكرا إلى الغرس. نشيد الطفولة لا يغيب صداه عن الذاكرة مهما تقدم بنا العمر. كانت ساحة المنزل البدوي أو “القَوْرْ’ بمثابة قاعة لاجتماع الأسرة في مفهومها الأصيل بفروعها عند الجد في جو من المرح والفرح والدينامية.

أما في الوقت الراهن، بات الكل غارق في وحدته، لا يستطيع مغادرة مواقع” التشتت” الإجتماعي. وقفت حياة الكثير هنا وانقضت. لم نستطع بعد لجم الغضب الذي أشعلته فينا سرعة الحياة وحركتها الغريبة. أيام الأعياد أخذت هي الأخرى مجرى الشكل والصورة، لا الثياب بقيت ثيابا ولا اللباس لباسا. ونحن في تفرغ إلى الحصاد على شكل “تويزة” لم نكن نتفاجئ كثيرا من الحيوانات والحشرات. اليوم، عودونا على السذاجة والخواء والرعب. يسكن هاجس الخوف كياننا، تعلمنا الانبطاح حتى في طلب عقود الازدياد من البلدية. لقد كبرنا دون أن ندري ذلك، اختصرنا المسافة على صفحة زرقاء مبهمة تفاصيلها. إلى كل المنتشرين على هذه الصفحة، لا تقولوا لي أنها أرض للحياة، تعدون التفاعلات وتحسبون التعليقات على رقعة أرض مزاجية متموجة لا تستقر لحال ولا تستكن لواقع.

بقلم: طارق المنيظر

أضف تعليقك هنا
شارك
بقلم:

Recent Posts

جبريل عليه السلام

بقلم: رسل المعموري جبريل عليه السلام هو أقرب ملائكة الله إليه، وصديق النبي صل  الله… اقرأ المزيد

% واحد منذ

من فضلك كن نفسك فقط

أيها القارئ الكريم ظللنا لعقود طويلة ومنا من لا يزال يؤمن أو متأثر بثقافة المنظرة… اقرأ المزيد

% واحد منذ

تاريخ الديانة الحنيفية

بقلم: رسل المعموري ""وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ۗ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا… اقرأ المزيد

% واحد منذ

كيف تحتوي المراهقة؟

ما هي صفات الابن المراهق؟ لسن المراهقة بدايةً بالتمهيد وهو عمر ما قبل سن المراهقة… اقرأ المزيد

% واحد منذ

بين قمم الأطلس وخضم الريف: شهادة امرأة حرة عن جمال وتنوع المغرب الأمازيغي

أنا فخورة بأنني أمازيغية مغربية، فاللغة الأمازيغية تحمل في طياتها عمق الإحساس وجمالية الطبيعة والثقافة… اقرأ المزيد

% واحد منذ

الدراما السورية..نهوض الفينيق!!

لطالما كان الوقوفُ على قدمين منتصبتَين، أو ربّما على قدمٍ واحدة، أو ربما النهوض بلا… اقرأ المزيد

% واحد منذ