السايبورغ في الفنون الأدائية المعاصرة “جسد بلا أعضاء”

الصورة رقم 01:  نركسوس يقطع دفقه من النهر
الصورة رقم 01:  نركسوس يقطع دفقه من النهر

في خضم التطورات التكنولوجية الراهنة وإيمانا من الفنان أنّه ابن عصره والوريث الشرعي لجملة الإمكانات التقنية والميكاترونية المتاحة، لم يجد بذلك حرجا في أن يقتطع من تلك الإمكانات دفقه الجسدي ويؤسس معها شكله الأدائي المهجن الذي يطل به على العالم، كونه شبيه “نركسوس[1]” Narcissus مع نهره، يقتطع كلاهما من الآخر دفقه الجمالي ويشكلان معا آلتهما الراغبة، فانعكاس صورته الأخاذة على النهر تهب للنهر قيمة استيطيقية مضافة، والنهر يُؤمّن لـ”نركسوس” في المقابل الاحتفاء بجماله الجرياني بلا انقطاع.

السايبورغ يتجسد في مجاز “الشحرية والنحلةللفنان “مارسال بروست2

الصورة رقم 02: الشحرية والنحلة
الصورة رقم 02: الشحرية والنحلة

يقترح علينا “مارسال بروست2Marcel Proust ذات الاقتطاع الرغبوي والتلاقح الطارئ الذي يعتبره أصل الحياة وصك سيرورتها، إذ يقدم لنا مجاز “الشحرية والنحلةThe Wasp and the Orchid في إحالة رمزية لهذا الاقتطاع الرغبوي المزدوج والمتبادل. إنّ النحلة تختلف تماما عن الزهرة وهو ذات الاختلاف بين جسد “نركسوس” ونهره، كما هو الشأن كذلك بين الكتلة النابضة للفنان والآلة، فهم جميعا عناصر متنافرة في أصلهم، لا يجمعهم أي ترابط قبلي إلا أنّ إمكانية التلاقح والربط  connexion بينهم متاحة وممكنة، بل هو تلاقح خلاق يهب “جسدا بلا أعضاءBody without organs  حسب نظرية “جيل دولوز3Gilles Deleuze، حيث “الأعضاء منحلة ومفتوحة بشكل دائم وهذا ما يمنحها إمكانية التركييب4“.

إنّ النحلة وإن ابتغت نيل الرحيق في طقسها الأدائي الراغب مع الزهرة، فهي تمنحها دون شعور مسبق منها جينات مضافة تحييها من حيث هي أرادت هي أن تحيي عليها، فتوق الزهرة للإخصاب وتعطّشها إليه يتزامن بلا تخطيط ولا تهيئة مسبقة مع رغبة النحلة في نيل الرحيق، فنحن إزاء ربط رغبوي مشترك قائم على قطع دفق متبادل، تقطع خلاله الزهرة دفقها من النحلة مقابل منحها دفقا آخر تطرحه للنحلة، فـ”الزهرة في عين النحلة ينبوع حياة، والنحلة في عين الزهرة رسول حب5” كما ورد على لسان “جبران خليل جبران6“. كلاهما يقتطعان من بعضهما أعضائهما مقابل طرح جسد مزدوج بلا أعضاء، منحل ومفكك، يُعاد تركيب أعضائه وتنضيدها بما يؤسس لحياة جديدة لا تحققه النحلة بمفردها ولا الزهرة كذلك.

يصور الفنان “ستولارك” السايبورغ بمجموعة من العروض الأدائية الممتدة

الصورة رقم 03: ستولارك،تعليق، 1982
الصورة رقم 03: ستولارك،تعليق، 1982

بالتالي، بدت التجارب الأدائية المعاصرة تتغذى من ذات الاقتطاع الرغبوي الذي اقترحه “بروست”، يُضاعف طاقتها الراغبة “الكوناتيس7Conatus السبينوزي (نسبة إلى الفيلسوف سبينوزا)، بوصفه القدرة والجهد الذي يسمح لكل كائن أن يُوجد ويحفظ إستمراريته، بل أن يُبدع في نحت شكل تلك الاستمرارية الراغبة.

في ذات السياق يقدم لنا كلا من “جيل دولوز” بمعية شريكه فيليكس غوتاري8 Félix Guattari مفهوم الآلات الراغبة Desiring machines ، كآلات قائمة على الاقتطاع الرغبوي المتبادل، أي قطع الدفق من عضو لطرح دفق آخر، يُقتطع بدوره من عضو آخر وهكذا دواليك، قطع يتلوه دفق يتلوه قطع، بلا بداية أو نهاية، فهي آلات راغبة تتشكل من الوسط كـ”جذمور9Rhizome “دولوز”، تُوزّع تدفقاتها وتتفرع بعد قطعها، ليعود دفقها أكثر جريانا وحدّة كنهر هرقليطس.في هذا الإطار، ينجز الفنان الأدائي “ستولارك10Stelarc مجموعة من العروض الأدائية الممتدة بين سنتي 1976 و1988  وهو معلق في الفضاء بطرق وأشكال مختلفة، عبر الاستعانة بمجموعة من الخطافات يوزعها الفنان على كامل الجسد وبطريقة متساوية، ما يسمح للفنان برفع جسده عن سطح الأرض وتقديمه بتلك الواجهة الأدائية.

بمرور الوقت، تتداعى أعضاء جسد الفنان، ليستشعر “ستولارك” هشاشته وفراغه المادي الذي تترجمه تأثيرات التعليق، من صعوبة في التنفس وارتفاع  دقات القلب، التي تنقل للمتلقي عبر أجهزة  تضخيم الصوت. بالتالي، يتبدى لنا “ستولارك” جسدا بلا أعضاء، أعضاءه رخوة وهشة تحت وطأة التقادم، يعاني تبعات الاستنزاف، فكل خطاف يخترق لحم الفنان هو قطع لدفق عقيم لا يطرح إلا الفراغ والقحط.

نموذج الفنان “ستولارك” يعتبر نموذجا كونيا لتجسيد السايبورغ

Re-Wired / Re-Mixed: Event for Dismembered 
Re-Wired / Re-Mixed: Event for Dismembered

وفق هذا المعطى، يقترح علينا “ستولارك” مجددا نموذجا للقطع والتلاقح المزدوج على شاكلة الزهرة والنحلة، ليتمثل “السايبورغ11Cyborg النموذج الأمثل لهذا التجانس الأدائي والتلاقح بين الجسد والآلة، بين الدفق البيولوجي والدفق التكنولوجي في عمله الأدائي Re-Wired / Re-Mixed: Event for Dismembered  سنة 2016، يطفو أمام أعيننا كدليل حاسم لإمكانية تعديل الجسد وتحسينه وتطويره كما تطورالعمارة.

ففي عمله المذكور، يلوح لنا “ستولارك” جسدا بلا أعضاء ولا أطراف، كونها أطراف تشاركية وموزعة في أماكن وأقاليم عدة، إذ يضع الفنان على مستوى الوجه لوحة عرض رأسية (Head-up display (HUD  تسمح له من رؤية العالم بعيون شخص يعيش في لندن وكذلك أن يسمع من أذن شخص في نيويورك، إضافة إلى منحه للمتلقين إمكانية تحريك ذراعه اليمنى عبر شبكة الانترنيت، بعد وصل أجهزته الميكاترونية بنظام “البينغ” Ping بوصفه نظام سرعة تدفق بيانات الانترنت، التي ترتفع أنساقها وتتضاعف من خلال مشاركة المتلقين لهذا الحدث افتراضيا.

يتمثل لنا “ستولارك” إذن نموذجا كونيا للسايبورغ، مفكك، تُقتطع تدفقاته من المتلقين من أمكنة مختلفة من العالم، يمنحهم دفقه الخاص حتى يقتطعوه، ليقطع لهم في المقابل دفقهم، فيصير جسدا جذموريا، لا نعرف له بداية أو نهاية، ممتد في الزمكان، ينمو دائما من الوسط ومنه يتفرع ويتضاعف ويتشكل.

هل يعتبر السايبورغ النموذج الأمثل لجسد بلا أعضاء؟

يستحيل السايبورغ النموذج الأمثل لجسد بلا أعضاء، يؤسس لتلاقح جمالي بين البيولوجي والآلي، تُستبدل خلاله أعضائه بأعضاء أكثر تطورا ومقدرة،ففي تفتت كل عضو فيه انتصار لعضو جديد يحل محل القديم، أعضاء تنبعث من ذات الرماد القديم الذي وُئدت فيه، مبشرة بكائن أسطوري يحوي العالم ويحتويه بالمثل.

ولكن إذا كان “السايبورغ” الإبن البكر للتكنولوجيا، فإنه في المقابل تقترح تلك الممارسات الفنية المعاصرة ” الأفتار”  Avatar كوليد ثان للنظم التكنولوجية المعاصرة، فهل يمكن أن نقيسه بذات المقاييس التي عدنا إليها في إثارة مفهوم السايبورغ؟ إذا كان السايبورغ جسدا بلا أعضاء فهل نحن أمام نموذج ثان بلا جسد وبلا أعضاء في ظل غياب المعطى الفيزيائي وتعاملنا مع نموذج افتراضي بحت؟

الهوامش:

[1]نركسوس أو نرسيس Narcissus : في الأساطير اليونانية كان صيادا من ثيسبيا، أشتهر بجماله، فكان مغرورا وفخورا بنفسه لدرجة تجاهله وإعراضه عن كل من يحبه. أعجب بصورته التي شاهدها في النهر ووقع في حبها  دون أن يدرك أنها مجرد صورة وبقي يحدق فيها دوما إلى ان مات

2– مارسال بروست  Marcel Proust (1871-1922): روائي، ناقد واجتماعي فرنسي. من أبرز أعماله سلسلة روايات البحث عن الزمن المفقود  À la recherche du temps perdu، والتي تتألف من سبعة أجزاء نشرت بين عامي 1913 و1927، وهي اليوم تعتبر من أشهر الأعمال الأدبية الفرنسية.

3 جيل دولوز Gilles Deleuze ( 1925–1995) هو فيلسوف فرنسي كتب في الفلسفة والأدب والأفلام والفنون الجميلة من أوائل الخمسينيات.

4 عادل حدجامي، فلسفة جيل دولوز عن الوجود والاختلاف، ص 222، دار توبقال للنشر، المغرب، 2012

5-جبران خليل جبران،  GoodReads، على الرابط : https://www.goodreads.com/quotes/1309392

6– جبران خليل جبران (1883-1931):  شاعر وكاتب ورسام لبناني من أدباء وشعراء المهجر.

7– كوناتيس  conatus: في المصطلح السبينوزي تشير بشكل عام إلى القدرة أو الجهد الذي يسمح لكل كائن أن يوجد ويفعل وبان يحفظ وجوده واستمرارية فعله. إنها بمعنى قدرة إنتاجية وإبداعية تمتلكها الرغبة كي تصبح بإمكانها أن تعبر عن نفسها عبر الفعل.

8- فيليكس غوتاري  Félix Guattari ( 1930–1992) : فيلسوف فرنسي.

9 الجذمور هو مفهوم فلسقي طوره جيل دولوز وفيليكس غوتاري استنادا إلى جذمور نباتي الذي يدرك التعددية كنمط من المعرفة ونموذج للمجتمع.

10– ستلارك Stelarc  (1946-): فنان استرالي، واسمه الفعلي “ستيليوس أراكاديو” Stelios Aracadiou. اختص في العروض الأدائية التي قدم من خلالها طرحه “البيوميكانيكي” عبر الجمع بين جسده البيولوجي وبعض المكونات الالكترونية والروبوتية.

11السايبورغ  Cyborg :  مصطلح لكائن سبراني يتكون من مزيج من مكونات عضوية وبيو-ميكاترونية.

فيديو مقال السايبورغ في الفنون الأدائية المعاصرة “جسد بلا أعضاء”

أضف تعليقك هنا